مقدمة إلى مقالات تتناول تاريخ لبنان بالتفصيل.

كتبه: سي. آر. بينيل المحاضر السابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط بجامعة ملبورن في أستراليا
حرره: إريك برنس
لبنان: أرض التنوع الديني
اتسم لبنان عبر تاريخه بالتنوع الديني الذي كان سمة بارزة فيه، إذ عاش على أرضه اليهود، وعدد من الطوائف المسيحية، والمسلمون. ورغم اعتناق المدن الساحلية الإسلام مع ظهوره، فإنّها ظلت تضم جماعات من الروم الأرثوذكسوالأرمن. واستقر أتباع الإمام علي –الشيعة– في جنوب لبنان وعلى المرتفعات الجبلية.
وتُعد الطائفة الإسماعيلية أحد الطوائف الشيعية التي انتشرت في لبنان وسوريا، وقد هاجرت من مصر إلى لبنان في عهد الدولة الفاطمية خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. كما يُعد الدروز -الذين يشكّلون جزءاً مهماً من النسيج الاجتماعي اللبناني- فرعاً منشقاً عن الطائفة الإسماعيلية، وتعود جذورهم كذلك إلى مصر.
تتشابه المنطقة الساحلية في لبنان المعاصر إلى حد كبير مع كنعان القديمة، التي امتدت من أوغاريت (المعروفة حالياً برأس شمرا) في شمال سوريا، على امتداد الساحل ووادي نهر العاصي، وصولاً إلى عكا في فلسطين. وكانت المدن الواقعة على هذا الساحل، مثل طرابلس، وجبيل، وبيروت، وصيدا، وصور، والتي أصبحت اليوم جزءاً من لبنان، مدناً فينيقية شهيرة، وتميزت كل منها باستقلالها الذاتي.
بين هدوء القرن التاسع عشر والمماليك
سيطر المماليك على جبل لبنان وسوريا الحالية في القرن الثالث عشر الميلادي. وباعتبارهم من السنّة، تعاملوا بحذر مع المسيحيين، ولا سيما الموارنة، والشيعة الذين كانوا يقطنون تلك المناطق. ورغم ذلك، أقام المماليك علاقات طيبة مع المسيحيين الكاثوليك في البندقية، وسمحوا للطوائف المسيحية بالعيش بسلام في لبنان.
وفي عام 1516، هزمت الإمبراطورية العثمانية المماليك، مما فتح المجال لفترة امتدت ثلاثة قرون من الانسجام النسبي بين الطوائف الدينية المختلفة.
ظل الهدوء والازدهار سائدين في جبل لبنان حتى القرن التاسع عشر، حيث أصبحت المنطقة ملاذاً للأقليات الدينية والعرقية التي هربت من الاضطهاد، ووجدت نفسها مضطرة إلى التعايش فيما بينها.
الانتداب الفرنسي وتشكيل الدولة اللبنانية
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قُسّمت الإمبراطورية العثمانية بين قوى الحلفاء المنتصرة، بريطانيا وفرنسا. فاستولت بريطانيا على الأراضي التي تشمل حالياً فلسطين والأردن والعراق، بينما أدارت فرنسا الأراضي التي تشمل سوريا ولبنان حالياً.
خضعت هذه المناطق للانتداب بهدف إعدادها للاستقلال في المستقبل، لكنها قُسّمت وفق اعتبارات دينية وعرقية. واتسعت متصرفية جبل لبنان السابقة -ذات الأغلبية المارونية- لتشمل مناطق سنّية وشيعية وأخرى للروم الأرثوذكس. وخضع لبنان للانتداب الفرنسي، حيث أُعيد تعريفه على أسس طائفية، ووُضع له دستور ما زالت بنوده الأساسية سارية حتى اليوم.
لبنان بعد الاستقلال
خلال الحرب العالمية الثانية، كان لبنان خاضعاً في البداية لسيطرة نظام فيشي الفرنسي بعد الاحتلال الألماني لفرنسا عام 1940. وبضغط بريطاني، اضطُرت حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول إلى قبول استقلال لبنان الكامل عام 1943.
تزامن الاستقلال مع عقد الميثاق الوطني الذي حاول الموازنة بين المصالح الطائفية والتحالف مع القوى الغربية، مع الإقرار بالهوية العربية للبنان. بيد أنّ الحفاظ على هذا التوازن كان صعباً للغاية في الخمسينيات، إذ تسببت الحرب الباردة والقومية العربية في زعزعة البُنى السياسية في الشرق الأوسط. كما لجأ عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان، مما أسفر عن اندلاع حرب أهلية قصيرة عام 1958.
النهج الشهابي وجذور الحرب الأهلية اللبنانية
انتهت حرب 1958 القصيرة بتدخل عسكري أمريكي ووصول قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية، فشرع في حملة جذرية لتحديث لبنان وفرض النظام عبر الانضباط السياسي الصارم. غير أنّ هذه السياسات أثارت استياء زعماء الطوائف التقليديين الذين قوضوا تدريجياً سياسات شهاب المعروفة بـ”النهج”.
وشهد عام 1970 تغيّراً جذرياً مع انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. فقد أسس فرنجية نظاماً شديد الفساد وسوء الإدارة، وفشل في كبح التحالف القومي اليساري، الذي هيمن عليه المسلمون السنّة، عن مواجهته للنخبة الحاكمة القديمة التي شملت زعماء الموارنة. وفي الوقت نفسه، ظهرت حركة شيعية متشددة في جنوب لبنان، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات مسلحة تفاقمت حتى تحولت إلى حرب أهلية شاملة عام 1975.
الحرب الأهلية اللبنانية
في بداية عام 1976، اندلعت مواجهات عنيفة بين الميليشيات المسيحية والميليشيات القومية اللبنانية التي تحالفت مع الوجود الفلسطيني المتزايد في لبنان. أدى ذلك إلى انقسام الجيش اللبناني والعاصمة بيروت، بينما سيطرت القوات السورية على جزء كبير من البلاد.
وفي الجنوب، اشتبك الفدائيون الفلسطينيون مع الجيش الإسرائيلي، مما أسفر عن غزوات إسرائيلية متكررة للبنان عامي 1978 و1982، بالإضافة إلى ارتكاب الإسرائيليين عدة مجازر. وتسبب الانقسام داخل الحركة الشيعية في ظهور منظمة جديدة تُدعى حزب الله. خلال الحرب الأهلية، شهد لبنان حالات اختطاف رهائن، واستخدام أساليب جديدة مثل التفجيرات الانتحارية.
كانت الدولة اللبنانية تنهار بحلول منتصف الثمانينيات، إذ واصلت مؤسسات مثل المصرف المركزي ومجلس النواب عملهما شكلياً فقط. وفي عام 1989، نّظمت جامعة الدول العربية مؤتمراً في الطائف بالمملكة العربية السعودية لوضع خطة تسوية.
الجمهورية اللبنانية الثانية
أسفر اتفاق الطائف عن خطة مصالحة كان فيها رفيق الحريري، رجل الأعمال اللبناني النافذ ذو العلاقات السعودية، شخصية بارزة. وفي عام 1992، أصبح الحريري رئيساً للوزراء بدعم سعودي وغربي، وكان له نفوذ بين السنّة وبعض الطوائف المسيحية.
استمر حزب الله في توسيع نفوذه في الجنوب والشرق، بينما قاد الحريري حملة لإعادة إعمار بيروت، لكنه لم يستطع احتواء عداوات الميليشيات المسيحية اليمينية والحركة الفلسطينية. وفي عام 1996، غزا الجيش الإسرائيلي لبنان مجدداً.
أعلن الحريري استقالته، ولم تتمكن الحكومة الجديدة من مواجهة التحديات، لا سيما مع استمرار الغزو الإسرائيلي. بحلول عام 2000، انسحبت إسرائيل من معظم لبنان، وعاد الحريري إلى رئاسة الوزراء، لكنه واجه صعوبة في الحفاظ على التوازن بين القوات السورية المحتلة والميليشيات المارونية والمجموعات الشيعية المسلحة، مما دفعه إلى الاستقالة في أكتوبر 2004.
ثورة الأرز
في أوائل عام 2005، اغتيل الحريري وتولى ابنه سعد قيادة تيار المستقبل الذي أسسه والده. أجبرت المظاهرات التي عمّت لبنان، وسُميت ثورة الأرز، الجيش السوري على الانسحاب من البلاد. وانقسم المشهد السياسي بين جناح حداثي سنّي وماروني يدعمه جيش محدّث، وجناح متطرف شيعي وماروني يرفض التخلي عن الميليشيات.
بعد انتخابات يوليو، أصبح فؤاد السنيورة رئيساً لحكومة يهيمن عليها تيار المستقبل السنّي. وفي الوقت نفسه، أدت هجمات حزب الله على المواقع الإسرائيلية إلى غزو جديد عام 2006. كما اندلعت مواجهات بين الجيش اللبناني والجماعات الفلسطينية الإسلامية. وتصاعدت التوترات مع محاولات الحكومة فرض سيطرتها على حزب الله، مما أدى إلى مزيد من التظاهرات العنيفة. وفي عام 2009، تولى سعد الحريري رئاسة الوزراء قبيل اندلاع ثورات الربيع العربي في أنحاء الشرق الأوسط، ولا سيما سوريا.
من الربيع العربي إلى جائحة كورونا
لم تؤثر ثورات الربيع العربي في لبنان بشكل مباشر، لكن كان لها أثر عميق غير مباشر. فبمجرد تعرض نظام الأسد لتهديد حقيقي من قوات المتمردين، قام حزب الله، الذي يُعد أحد أذرع النظام السوري في لبنان، بتقديم الدعم لمحاربة المتمردين السنّة في دمشق وحمص وغيرها من المناطق السورية.
فرّ اللاجئون السوريون، ومعظمهم من السنّة، من الحرب إلى لبنان، وتغيرت أولويات حزب الله، فصرف تركيزه عن مواجهة إسرائيل. إذ تحول الحزب إلى منظمة قادرة على فرض سلطة مباشرة للطائفة الشيعية، وجرّها في الوقت نفسه إلى الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران. وقفت الحكومة اللبنانية عاجزة أمام الانهيار الاقتصادي، واندلعت احتجاجات شعبية بعد الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، وزاد تفشي كوفيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية.