كان المرشح الرئاسي فؤاد شهاب هو السياسي الوحيد الذي توافقت عليه جميع الطوائف اللبنانية لنجاحه في تجنيب البلاد ويلات حرب أهلية وشيكة في أزمة عام 1958. فقد اتبع شهاب سياسة تعتمد على توحيد الجيش مع الرئاسة بغرض استخدام هذه السلطة في تحديث الدولة. وأراد نزع فتيل التوترات من خلال بناء الطرق والمدارس والمراكز الصحية. وعُرفت هذه السياسة لاحقاً باسم النهج (أو النهج الشهابي).
كتبه: C.R. Pennell أستاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا
حرره: إريك برينس
النهج الشهابي: تحديث الدولة
أدت سياسات النهج إلى إثراء النخبة اللبنانية لأنّها أنعشت الاقتصاد، وإن ظلّ الفقراء مهمشين. ورغم التنمية الاقتصادية السريعة التي شهدها لبنان، ازدادت الأحياء العشوائية التي مثّل الشيعة الفقراء غالبية سكانها، وكانوا أكثر ارتباطاً بالفلسطينيين الذي عاشوا في المخيمات وعلى ضواحي بيروت. وكان الشيعة المجتمع المسلم الأكبر في لبنان وكذلك أكثرهم فقراً وأقلهم تعليماً، لذلك صاروا الأضعف. لذلك كانت أي محاولة لزيادة ثرائهم ومن ثمّ زيادتهم قوةً كانت قد تؤدي إلى زعزعة التوازن الطائفي.
كان الرئيس فؤاد شهاب يحتقر كثيراً من النخب الطائفية القديمة وأطلق عليهم ساخراً لقب “أكلة الجبنة”، بينما كانت الجماعات الساعية إلى التحديث تدعمه وتؤيده. وكان حزب الكتائب الذي أسسه بيار الجميل في فترة ما بين الحربين من بين هذه الجماعات، ولم يزد عن كونه استنساخاً للأحزاب الفاشية في أوروبا. وقد تبنى الحزب مفهوم “التحديث” القائم على مبادئ السوق الحرة، والدولة القوية، والهوية اللبنانية القائمة على أساس غير ديني. وحظي حزب الكتائب ببعض الدعم من الطائفة الشيعية. وأعلن الزعيم الدرزي كمال جنبلاط تأييده لتشكيل دولة حديثة متقدمة ودعمه لفؤاد شهاب أيضاً.
اعتمد شهاب من أجل ضمان سيطرته على الشعبة الثانية (جهاز الاستخبارات العسكري)، مع الحفاظ على التوازن الدولي، أي الحياد بين الكتلتين الشرقية والغربية، وهو ما أزعج القوميين العرب الذين اعتمدوا على الاتحاد السوفيتي للحصول على الدعم والإلهام. وأملاً في الحفاظ على دعم الموارنة، أكد شهاب على التعاون الوثيق مع فرنسا وليس الولايات المتحدة وهو ما أثار استياء القوميين العرب والحكومة الأمريكية.
انتهت ولاية شهاب عام 1964 ولم يحاول التمسك بالسلطة. وكان كميل شمعون وبيار الجميل هما المرشحان الأبرز للانتخابات الرئاسية وكلاهما من الموارنة بطبيعة الحال، وكان لهما كثير من الأعداء. وهنا ظهر شارل حلو الصحفي والسفير السابق الذي عُدّ مرشحاً توافقياً. كان حلو مؤيداً للنهج الشهابي، ولكن لم يكن لديه أي نفوذ أو قاعدة قوية في الجيش أو طائفة تدعمه، فاعتمد أكثر على الشعبة الثانية.
العامل الفلسطيني
لم يكن بإمكان الشعبة الثانية السيطرة على الأحداث الخارجية، إذ انتشرت بين السنّة مطالب بدعم “القضية العربية”، وهو ما رفضه غالبية المسيحيين الموارنة، كما تنامي دور الفلسطينيين في الاقتصاد المحلي.
فقد شهد بنك إنترا، وهو مؤسسة مصرفية صغيرة لصرف العملات يديرها فلسطينيون، نموًا كبيرًا ليصبح أحد أكبر المصارف في الشرق الأوسط، مما أثار استياء المصرفيين الموارنة. وفي عام 1966، تدافع المودعون على بنك إنترا ورفض مصرف لبنان المركزي تقديم المساعدة في هذه الأزمة. وزعم الفلسطينيون أنّ الطائفة المارونية هي التي دبرت هذا الهلع المصرفي الذي ألحق بالمصرف أضراراً جسيمة، ليس بالفلسطينيين فحسب، بل بالسوق المالية اللبنانية أيضاً. وفي أعقاب هذه الأزمة، عُيّن إلياس سركيس مديراً جديداً لمصرف لبنان لاستعادة الاستقرار المالي.
كما ظل لبنان بعيداً عن حرب 1967، وهو ما أثار غضب المسلمين الذين أيدوا هجمات الجماعات الفلسطينية المسلحة عبر الحدود الإسرائيلية بعد انتهاء الحرب. وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة، زادت أعداد الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، مما أدى إلى توسع المخيمات.
بدأ الفدائيون الفلسطينيون في شن غارات عبر الحدود الإسرائيلية. وفي عام 1968، ردت القوات الإسرائيلية باستهداف مطار بيروت. وحين امتنع الجيش اللبناني عن فعل أي شيء لصد الهجوم الإسرائيلي، شكّلت الجماعات الفلسطينية والمسلمون اللبنانيون اليساريون جماعة مسلحة مشتركة، كما حشد حزب الكتائب الذي يهيمن عليه الموارنة قواته. وفي عام 1969، شن الجيش اللبناني حملة ضد الفلسطينيين. ولاحقاً في مارس 1970، نشب القتال بين الجماعات المسلحة الفلسطينية وحزب الكتائب حتى توسط الرئيس المصري جمال عبد الناصر في النهاية للتوصل إلى اتفاق سلام.
لكن الاضطراب ظل سيد الموقف، إذ انتقلت الجماعات المسلحة الفلسطينية من الضفة الغربية إلى الأردن بعد حرب 1967، وسرعان ما اختلفوا مع الملك حسين. وفي سبتمبر عام 1970، اندلعت اشتباكات بين القوات الفلسطينية والأردنية انتهت بطرد الجماعات المسلحة الفلسطينية. وكانت تلك الهزيمة الفلسطينية الجديدة سبباً في زعزعة استقرار لبنان أكثر فأكثر. وقد تمخض ذلك الحدث عن تكوين منظمة أيلول الأسود، إحدى أكثر الجماعات المسلحة الفلسطينية راديكاليةً.
وانتهت حقبة النهج الشهابي بحلول عام 1970. إذ دفعت الانتخابات الرئاسية الجديدة البلاد إلى حالة من الجمود بين إلياس سركيس مدير مصرف لبنان، وسليمان فرنجية السياسي وأمير الحرب المعروف من زغرتا في شمال لبنان. وكان فرنجية مرشحاً محايداً، إذ كان يكره كميل شمعون، ويؤيد عبد الناصر علناً، كما عارض الوجود الفلسطيني في لبنان معارضة صارمة. ويمكن القول باختصار إنّ فرنجية كان رجلاً يجلس على كل الموائد، وكانت لديه ميليشيا كبيرة تحت إمرته. وفاز في الانتخابات النيابية بفارق صوت واحد، وهي النتيجة التي انتشرت مزاعم عن فرضها تحت تهديد السلاح.
أراد أنصار فرنجية القضاء على النظام الشهابي، ولكن الدولة نفسها انهارت. فقد عمل فرنجية على تطهير الجيش والإدارة من أتباع فؤاد شهاب باستثناء سركيس الذي ظل مديراً لمصرف لبنان. كما صدر قرار بحل الشعبة الثانية لتذهب معها كل خبراتها المتراكمة ومعرفتها بالجماعات الفلسطينية المختلفة. واعتمد فرنجية على جماعات المصالح التي منعت إصلاحات الصحة والتعليم والنظام الضريبي وغير ذلك. كما تشكلت حكومة من السياسيين الذين ينتمون إلى الحرس القديم، وكثير منهم كان “على وشك الإعاقة الجسدية”، على حد وصف أحد المعلقين.
حافظت بيروت على ثرائها، وظلّ الريف يزداد فقراً. ولم تعد الأحياء الفقيرة المتنامية تكتظ بالشيعة الفقراء فحسب، بل بالموارنة الفقراء كذلك. وبمجرد أن غادر الناس قراهم، انقطعت روابطهم القديمة، ولم يعد بإمكانهم تشكيل هويتهم إلا على أساس طائفي. وانضم كثير من الموارنة إلى حزب الكتائب، ورغم التحاق المسلمين بالجيش، ظلّ الجيش تحت إدارة الموارنة. وكان كثير من السنّة يتطلعون إلى الحصول على دعم الفلسطينيين.
معارضة نظام فرنجية وإرهاصات الحرب الأهلية
مثلت الجماعات اليسارية والقومية العربية تكتل المعارضة لنظام فرنجية، وتضمنت الأحزاب الناصرية، والحزب الشيوعي اللبناني، والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة جنبلاط، وكانت لها جميعاً روابط مع الفصائل الفلسطينية الراديكالية (الفدائيون الفلسطينيون) في مخيمات اللاجئين.
وفي عام 1972، خاضت جبهة الأحزاب والقوى القومية والوطنية في لبنان، وهي تحالف من الأحزاب المذكورة آنفاً، الانتخابات النيابية العامة على خلفية إصلاحية علمانية، ثم أعادت الجبهة تنظيم نفسها تحت اسم الحركة الوطنية اللبنانية.
أدت النجاحات الأولية التي حققها الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973 إلى تحفيز الجماعات القومية العربية المؤيدة للفلسطينيين في لبنان، ولكن ذلك الحدث أثار غضب السياسيين الموارنة اليمينيين ودفعت لبنان نحو مزيد من الاضطرابات، رغم أنّ الجيش والدولة اللبنانية نجحا مرة أخرى في تجنيب البلاد الاقتتال الداخلي.
وكانت ثمة قوة أخرى ثالثة في طور التشكل آنذاك في جنوب البلاد ووادي البقاع في الشرق حيث تتركز الأغلبية الشيعية. تولى الإمام موسى الصدر قيادة تلك الحركة، وكان شخصية شعبية طالب بالحماية من الغارات الإسرائيلية على الجنوب، مما تسبب في نفور كبار السن من الشيعة الذين خشوا أن يكون ذلك سبباً لزيادة وتيرة الغارات. وهكذا، دفع الصراع على السلطة المتنافسين الجدد في المجتمع الشيعي إلى حالة من التطرف الطائفي.
ينتمي موسى الصدر إلى عائلة شيوخ بارزين من جبل عامل، معقل الشيعة في المنطقة الجبلية الواقعة جنوب شرق صيدا حول نهر الليطاني. وقد وُلد في مدينة قُم الإيرانية، وهناك تلقى تعليمه العام والديني وأكمل مسيرته الدراسية في النجف بالعراق.
وبعد الإطاحة بالنظام الملكي العراقي عام 1958، عاد الصدر إلى إيران قبل أن ينتقل إلى صُور في جنوب لبنان مبعوثاً لكبار أئمة الشيعة الإيرانيين والعراقيين. وعمل الصدر داخل المجتمع الشيعي اللبناني على تطوير النشاط السياسي الشيعي الحديث، وتأسيس المدارس والجمعيات الخيرية. واشتُهر بمقولة “السلاح زينة الرجال”، كما أسس حركة المحرومين والتي كان لها ذراع عسكري ممثلاً في حركة أمل، وكانت له علاقات دولية قوية بسبب مصاهرته عائلتي محمد خاتمي وعائلة الخميني.
وبحلول يوليو 1974، بدأت الحركة الوطنية اللبنانية تتحدث عن إنهاء العمل بالميثاق الوطني. وحاول السياسيون من الحرس القديم احتواء الموقف، لكن أعمال الشغب اندلعت في صيدا أوائل عام 1975. وفي 13 أبريل، نشب الخلاف بعد وقوع اشتباك بين مسلحين من منظمة التحرير الفلسطينية كانوا يستقلون سيارة ومسلحين من حزب الكتائب في المنطقة المسيحية من بيروت؛ حيث أُطلق النار على سائق سيارة منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، هاجم مسلحون في سيارات عليها شعار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كنيسة كان بيار الجميل يحضر فيها قداس معمودية آنذاك، مما أسفر عن قتل حارسه الشخصي وغيره من الحاضرين. فردت قوات حزب الكتائب بنصب كمين لحافلة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بالقرب من صبرا، إحدى أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين خارج بيروت، وقتلوا أكثر من عشرين راكباً، وتُعد مجزرة البوسطة (أو حادثة عين الرمانة) بداية الحرب الأهلية اللبنانية.
وسرعان ما اشتعل فتيل القتال في بيروت، فاستمر القتال عدة أشهر رغم المحاولات الحثيثة من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وفي منتصف سبتمبر، تمكنت الحكومة السورية من إقناع الفصائل اللبنانية بالانضمام إلى لجنة الحوار الوطني التي شارك فيها جنبلاط والجميل.
ولكن لم تتمكن الفصائل من التوصل إلى اتفاق، إذ رأت الفصائل المارونية أنّ الأولوية لإنهاء القتال، بينما أرادت الحركة الوطنية اللبنانية وأنصارها إدخال إصلاحات على البنية السياسية. وفي أكتوبر 1975، وصلت وحدات من جيش التحرير الفلسطيني إلى منطقة البقاع بزعم مساعدة مسلمي المنطقة.
وها هنا بدت لبنان مقسمة، فاشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية.