وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تاريخ العمل السياسي في سوريا 1946-2011

تمتّعت الأحزاب السياسية، بما في ذلك المنتمون إلى المعارضة، بحرية العمل في بعض الأوقات، بينما تمّ قمعها في أوقاتٍ أخرى.

العمل السياسي في سوريا
امرأة سورية تغادر مركز الاقتراع في 1 ديسمبر عام 1961 خلال انتخابات برلمانية ديمقراطية في سوريا. DERZI / وكالة الصحافة الفرنسية

المقدمة

تباينت طبيعة السياسة في سوريا عبر تاريخ البلاد. وتمتّعت الأحزاب السياسية، بما في ذلك المنتمون إلى المعارضة، بحرية العمل في بعض الأوقات، بينما تمّ قمعها في أوقاتٍ أخرى. وكان أحد أهم العوامل في هذه العملية هو الدور المتزايد الذي لعبه الجيش في السياسة السورية، حيث حاول مرارًا التمسّك بالسلطة وفرض قيودًا على المشاركة السياسية الحرّة. وفي النهاية، احتُكِرت السلطة في عهد حافظ الأسد، حيث كانت الأجهزة العسكرية والأمنية بمثابة العمود الفقري لنظامه الذي صمد حتى بعد اندلاع الثورة عام 2011.

وفي هذا المقال، سوف تتطرّق فَنَك إلى كيفية تضاءُل دور الأحزاب السياسية في سوريا وكيف تم إلغاء هذا الدور في النهاية.

فترتا الانتداب والاستقلال

حضرت تكتّلات المعارضة السوريّة تاريخيًا في البرلمان السوري منذ عهد الانتداب الفرنسي، فقد كان من بين النواب السوريين من يرفض رفضًا قاطعًا توقيع المعاهدات مع فرنسا، ومن يطالب بجلائها من دون قيد أو شرط. وكان هناك من يعترض على سياسات الحكومات المتعاقبة التي تمّ تشكيلها في ظلّ الاحتلال خلال عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. بمعنى أن البرلمان السوري، حتى في عهد الانتداب الفرنسي، كان يتضمّن كتلاً عدّة، من بينها كتل معارضة. والحزب العربي الاشتراكي مثلاً؛ أحد الكتلتين الرئيسيّتين المشكّلتين لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي يحكم سوريا منذ أكثر من خمسين عامًا، كان كتلةً ذات موقف معارض في البرلمان قبل الاستقلال.

وبعد الاستقلال عام 1946، انتعشت الحياة السياسية في سوريا. وبدأت مختلف الأحزاب السورية بانتماءاتها وأيديولوجياتها تحشد الجماهير لتكفل أكبر عدد مقاعد لها في البرلمان. وأيضًا، ليكون لها موقع أقوى في السلطة، خاصةً بعد صدور القانون (325) عام 1947، الذي عدّل قانون الانتخابات في البلاد لتصبح حرّة ومباشرة. وإثر ذلك القانون، خاضت سوريا انتخابات وُصِفت حينها بالنزيهة، حيث تصارعت فيها جميع الكتل السياسية.

وبعد النكبة ونشوء دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948، سادت في سوريا فوضى سببها غليان شعبيّ ومظاهرات لا تهدأ دفاعًا عن فلسطين. وتبادلت الأحزاب السياسية والحكومة والجيش تحميل المسؤولية عن نكبة فلسطين. وساهم في الفوضى أيضًا الصراع الأمريكي السوفيتي على النفوذ في البلدان العربية، ومن بينها سوريا، حيث كانت الأحزاب السورية إما موالية للغرب أو مؤيّدة للسوفيات، مما أدى إلى انقسامات داخل سوريا نفسها.

مرحلة الانقلابات العسكرية

العمل السياسي في سوريا
تعود لعام 1948 في دمشق للجنرال حسني الزعيم الذي تولى السلطة في انقلابٍ ضد الرئيس شكري القوتلي في 30 مارس 1949 حيث أسّس أوّل نظام عسكري في العالم العربي. كما ترأّس الحكومة السورية التي شكّلها في 16 أبريل من العام نفسه. وكالة فرانس برس

ورث الجيش السوري القوات الخاصة من المرحلة الانتدابية، والتي شكّلت أحد أهم أركان الجيش وكانت على خلافٍ مع الطبقة السياسية الحاكمة. واستغلّت تلك القوات المظاهرات الحاشدة التي تكرّرت في أواخر 1948 ومطلع 1949، والتي استقالت على إثرها حكومة سوريّة وتأسّست أخرى. وفي مارس عام 1949 قامت القوات بحركة انقلابية سيطرت فيها على البلاد وأعلنت حكومة عسكرية، ملغيةً بذلك الحياة السياسية التي كانت من أهم ميزات سوريا ما بعد الاستقلال. وقاد الانقلاب حينها ضابط يُدعى حسني الزعيم.

وكانت حقبة الانقلاب الأوّل بقيادة الزعيم مظلمة، كونها عملت على إلغاء الحياة السياسية مقابل استمالة بعض السياسيين لتشكيل حكومات مدنية تتبع بشكل شبه مباشر للعسكر.

إلا أن الانقلاب الثاني الذي جاء بقيادة اللواء سامي الحناوي في أغسطس عام 1949 أعاد نسبيًا للحياة السياسية حضورها، إذ سمح للأحزاب السياسية معاودة العمل باستثناء الحزب الشيوعي. كما مُنِع الجيش من التدخّل في السياسة في ظل هذا الانقلاب. وجرت في ذلك الوقت انتخابات برلمانية في نوفمبر عام 1949، حصد فيها غالبية المقاعد حزب الشعب الذي كان واحدًا من أكبر الأحزاب السورية في تلك الفترة. وتقاسم حزب البعث وحزب الإخوان المسلمين وكتل سياسية أخرى بقيّة المقاعد، فيما قاطع الحزب الوطني الانتخابات حينها.

وسريعًا، حدث انقلاب ثالث بقيادة اللواء أديب الشيشكلي في ديسمبر عام 1949، أطاح فيه بحكومة الحناوي. وحافظ هذا الانقلاب نسبيًا على الحياة السياسية. وشهدت البلاد في عهده صراعًا بين الحكومة والبرلمان، إضافةً إلى صراع برلماني حول قضية علمانية الدولة وإسلاميتها، حيث نادت بعض الكتل يسارية التوجه بالعلمانية، فيما رفضت ذلك التيارات المحافظة، والتي انتصرت بحفاظها على الصفة الإسلامية للدولة ولشخص رئيس الجمهورية دستوريًا. وتغيّر ذلك في عهد الانقلاب أيضًا، حيث تمّ وضع دستور جديد لسوريا عام 1950 تمّت فيه إزالة جملة “الإسلام هو دين الدولة”، وتم إلغاء الإشارة إلى دين المواطن السوري في هويته الشخصية.

قمع المعارضة

ضَعُفَت سلطة الانقلابيين مقابل سلطة السياسيين، خاصةً مع ازدياد نفوذ حزب الشعب واتجاهه لتشكيل حكومة جديدة من دون أخذ مطالب الشيشكلي (بما في ذلك دور أكبر للجيش في السياسة) بعين الاعتبار. ومن جانبٍ آخر تفاقمت الأزمة في البرلمان بين الأحزاب، خاصةً في ما يخصّ الصراع بين الإقطاعيين والفلاحين.

وجراء ذلك، قام الشيشكلي بانقلابٍ جديدٍ في نوفمبر 1951 أطاح به برئيس الجمهورية والحكومة. كما قام بحلّ البرلمان وبدأ بحل الأحزاب السياسية بما فيها حليفه البعث، وتأسّست حركة التحرّر العربي التي كانت الحزب الشرعي الوحيد في سوريا حتى عام 1954. وبدأت حملات الاعتقال تطال كل من يعارض الانقلابيين، وفي مقدّمتهم قادة الأحزاب، ليتراجع الشيشكلي في ما بعد عن ذلك خوفًا من ردود الأفعال الجماهيرية التي بدأت تحتشد ضدّه.

وبالفعل، بدأ العمل السياسي ضد الشيشكلي يوحّد الأحزاب، حتى المتنافرة منها. فقد كان كلّ من حزب الشعب والحزب الوطني والبعث والشيوعي صفًا واحدًا في المعارضة ضدّ نظام الشيشكلي. واصطفّت الشوارع في مختلف المدن محاوِلةً إسقاط نظام الشيشكلي. لكن بدأ حراكًا في الجيش ينقلب عليه مؤيّدًا المعارضة في الشوارع، ليهرب الشيشكلي من سوريا عام 1954، وتعود الحياة السياسية إلى ما كانت عليه قبل الانقلابات.

وما تشترك فيه مجمل الانقلابات السياسية في سوريا هو أثرها على الحياة السياسية، بين انقلاب ألغاها وآخر قوّضها، وآخر أثّر عليها بشكل غير مباشر. إضافةً إلى ذلك، فقد ساهمت جميع الانقلابات في تعميق قوّة الجيش، وزيادة ميزانيّته، ورفع تعداده وحزبيّة قادته، الأمر الذي أثّر لاحقًا على الحياة السياسية وعلى تاريخ سوريا بشكل كبير ومباشر.

المرحلة الذهبية

بين عاميّ 1954 و 1958 مرّت سوريا بمرحلةٍ يجدها المؤرّخون مرحلة ذهبية، حيث ازدهر فيها العمل السياسي والصحافي. كذلك بدأت انتخابات برلمانية اعتُبِرت أنزه انتخابات تمرّ بها البلاد في تاريخها، استطاعت فيها القوى اليسارية والقوميّة التقدّم مقابل تراجع الأحزاب التقليدية.

وكان للعمّال والفلاحين جراء تلك الانتخابات تمثيل قوي في البرلمان، كما بات لكل قوّة سياسية مقاعد برلمانية تحاول استخدامها للضغط نحو مشروعها الوطني. واختلفت القوى السياسية السورية حينها في رؤيتها الخارجية أيضاً، بين قوى تحاول التقارب مع العراق وتركيا القريبين من الحلف الغربي، مقابل قوى تريد التقارب مع الاتحاد السوفيتي.

الوحدة تطيح بالحياة السياسية

العمل السياسي في سوريا
نُشِرت في 7 فبراير 1958 لسوريين يحتفلون بإعلان اتفاقية الوحدة بين سوريا ومصر. يوقّع الرئيس المصري جمال عبد الناصر (بالصور التي يحملها أنصاره) والرئيس السوري شكري القوتلي اتفاق الوحدة في 22 فبراير 1958، بداية الجمهورية العربية المتحدة. STRINGER / وكالة فرانس برس

تقاربت القوى القومية واليسارية في سوريا مع مصر إثر تزايد قوّة الزعيم جمال عبد الناصر. وكان توجّه حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا حينها توجّهًا قوميًا واضحًا. وكانت وحدة الدول العربية أولى أهدافه، لذا بدا أكثر القوى السياسية التي تسعى لتحقيق الوحدة مع مصر. وكان للبعث حينها أرضية شعبية كبيرة، ومقاعد برلمانية، وقدرة على التأثير في باقي القوى السياسية.

وأُعلِنَت الوِحدة بين البلدين في فبراير عام 1958، وكانت سوريا الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة التي يرأسها عبد الناصر. وأرجأ حزب البعث البحث في شكل الوحدة وصياغتها إلى ما بعد حدوثها، وقَبِل بحلِّ نفسه ملغيًا دوره القيادي، وهو ما أفسح المجال أمام الحكم الفردي.

وفرض عبد الناصر حالة انعدام العمل السياسي في سوريا، حيث مُنِعت الأحزاب وباتت سوريا محكومة بأيدي الجيش والمخابرات التابعين لسلطة عبد الناصر. أما قيادات الأحزاب السورية المنحلّة، فقد تمّ منعها من ممارسة العمل السياسي كليًا بموجب قانون أصدره عبد الناصر بتاريخ 12 مارس 1958. وأتبعه بقانون تشكيل محاكم أمن الدولة العليا، عُرِفَت في ما بعد كسلطة ديكتاتورية قادرة على البتّ في مختلف الأمور التنظيمية والسياسية والاجتماعية.

وأمَّم عبد الناصر المعامل والشركات، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، الذي رفضه ملّاك الأراضي وأصحاب رؤوس الأموال، وقيادات الأحزاب التقليدية البرجوازية المنحلّة رفضًا قاطعًا. كما أن سلطة الأمن والمخابرات بدت محبطة حتى للقوى السياسية القوميّة التي كانت مؤيِّدة لقيام الوحدة بقوّة. بمعنى أن شعورًا عامًا بات منتشرًا في البلاد رافضًا لممارسات عبد الناصر الديكتاتورية في سوريا. وبدأ الموقف ضد الوحدة يجمع قوى سياسية مختلفة على شكل معارضة غير مُعْلَنة لعبد الناصر.

وبدأ الانقسام في أجهزة الأمن بين إدارتها المصرية وضباطها السوريين، ووصل حدّ صراع بين المشير عبد الحكيم عامر، وهو قائد الجيش في الجمهورية العربية المتحدة، وبين عبد الحميد السراج وزير الداخلية ورئيس المكتب التنفيذي للإقليم الشمالي”سوريا”. بمعنى أن خللاً أمنيًا بدأ بالظهور.

وفي 28 سبتمبر 1961 أعلن الجيش السوري انفصال سوريا عن مصر من جانبٍ واحدٍ، مدعومًا بقيادات الأحزاب السياسية المنحلّة وعلى رأسها حزب البعث. ووقّعت تلك القيادات حينها بيان الانفصال، الذي يشير إلى أن المشكلة الأساسية مع عبد الناصر هي الممارسات الديكتاتورية، وحلّ الحياة السياسية في سوريا.

مرحلة الانفصال

سيطر على الحكم الانفصاليون من الجيش بقيادة عبد الكريم النحلاوي الذي كان القائد العسكري الفعلي للانفصال، حيث فرض النحلاوي سلطته على البلاد. وشهدت تلك المرحلة إجراء انتخابات برلمانية سمحت بإعادة تمثيل الأحزاب ديمقراطيًا. وعلى الرغم من إتاحة المجال أمام تلك الأحزاب لتشكيل الحكومة، إلّا أن السلطة الفعلية في البلاد بقيت بيد الجيش عن طريق مجلس الأمن القومي، الذي أسّسه النحلاوي بعيد الانفصال.

وبدأ بعض النواب في البرلمان السوري حملة معارضة ضد بنية الدولة وسلطة العسكر فيها، مطالبين بإنهاء هيمنة الجيش على السياسة. وكان لذلك التحرّك أثر دفع بالحكومة إلى الاستقالة، ثم بالجيش إلى الانقلاب على التغيير الذي يحدث، ليعيد سلطته على البلاد مجددًا ويبدأ باعتقال السياسيين ونواب البرلمان. وإثر ذلك، واجه الجيش حراكًا شعبيًا في الشوارع السورية وخاصة في مدينة حلب.

واستمرّت الفوضى السياسية وانقسامات الأحزاب على نفسها، والصراع بين السياسيين والجيش، إلى أن وقع انقلاب قادهُ مجموعة من الضباط البعثيين، الذين كانوا ضمن ما عُرِف باللجنة العسكرية التي تمّ تشكيلها في مصر أيام الوحدة. وكان من بين أعضاء هذه اللجنة حافظ الأسد. ولاقى الانقلاب استحسان بعض القيادات البعثية ورفض آخرين، فيما اعتُبر هذا التاريخ بدايةً لحكم البعث المطلق في سوريا.

دولة البعث

بين عاميّ 1963 و1970 دخلت البلاد في مرحلةٍ من الصراع العسكري السياسي، خاصةً بين أقطاب حزب البعث السياسية والقيادات العسكرية البعثيّة، وحتى بين أعضاء اللجنة العسكرية ذاتها التي نفّذت انقلاب 8 مارس 1963.

وكانت الحياة السياسية في تلك الفترة تتضاءل على حساب تنامي سلطة العسكر. وبدأ الحزب الذي كان فاعلًا ديمقراطيًا ومؤثّرًا شعبيًا عبر البرلمان، يصبح ممثّلًا بقيادات عسكرية متنافسة. وأفضت الخلافات في النهاية إلى انقلابين أساسيّين، أوّلهما بقيادة صلاح جديد في 23 فبراير 1966 ضد رئيس الجمهورية البعثي أمين الحافظ. وثانيهما بقيادة حافظ الأسد في 16 نوفمبر 1970 ضد القيادة القطرية للحزب وقائدها صلاح جديد، ومجموعة من القيادات البعثية الأخرى. وأفضى الانقلابان إلى تصفية جميع منافسي الأسد وتفرّده بالحكم.

سوريا الأسد

العمل السياسي في سوريا
صورة من الثمانينيات للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد تعترف بالحشد في دمشق. الأسد، الذي حكم سوريا بقبضة من حديد لمدة 30 عامًا، توفي في 10 يونيو عام 2000 عن عمر يناهز 69 عامًا. وخلفه نجله بشار، 34 عامًا، بعد أن عدّل البرلمان الدستور الذي نصّ على أن يكون المرشّح لرئاسة الدولة على الأقل 40 عامًا. HO / وكالة فرانس برس

ما إن تسلّم حافظ الأسد السلطة في سوريا حتى بدأ بتصفية خصومه وبمنع العمل السياسي الحزبي، حيث جمّع الأحزاب الموالية له ضمن إطار الجبهة الوطنية التقدمية. وتضمّنت تلك الأخيرة حزب البعث والحزب الشيوعي وحزب الاتحاد الاشتراكي وبقية الكتل التي أيّدت انقلاب الأسد. وبعد ذلك، بدأت النقابات والاتحادات، التي اعتبرت قيادة حزب البعث مرجعيّتها، تتأسّس تباعًا. وحاول الأسد بهذه السلوكيات مقاومة أيّ حراك أو توجّه شعبي ضدّ حكمه.

كما ضمن تأييدًا خارجيًا من خلال تقاربه مع الاتحاد السوفيتي، ومع إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها. كذلك حافظ على علاقاتٍ جيّدة مع بعض الدول العربية لضمان قبوله عربيًا.

أما على الصعيد المحلي، فقد استمال عشائر المنطقة الشرقية وبعض العشائر الكردية، وضَمَنَ ولاء الطائفة العلوية التي ينتمي إليها، وعزّز من حضورها في الجيش والمؤسّسة الأمنية. وبذلك، يكون قد ركّز الأسد اهتمامه على تأسيس الفروع الأمنية ونشرها في مختلف المدن والقرى، ليرسي دعائم حكم ديكتاتوري قادر على الاستمرار وعلى قمع أي حراك معارض ضدّه.

ولم يواجه الأسد خلال حكمه حركة معارضة حقيقية سوى حركة الإخوان المسلمين، التي كانت عبارة عن حزب فاعل في الحياة السياسية السورية قبل وصول البعث إلى السلطة. وكان الإخوان المسلمون يصِلون تارةً إلى البرلمان وتارةً أخرى يقاطعون الانتخابات. ويتحالفون مع هذا الحزب ويعادون ذاك كأي تكتّل ضمن التركيبة السياسية السورية، قبل أن يتم قمعه بُعَيد استلام البعث للسلطة.
وفي عام 1979، ظهرت مجموعة منشقّة عن الإخوان المسلمين تحمل اسم “الطليعة المقاتلة”، وبدأت خوض عمل عسكري ضد النظام السوري، فأقدمت على قتل مجموعة من الطلاب الضباط الذي ينتمون إلى الطائفة العلوية في مدرسة المدفعية في حلب. وجراء ذلك، حظر الأسد المجموعة وتوعّد أيّ منتمٍ إليها بالإعدام.

ودخلت البلاد في مرحلة من المواجهات العسكرية المتقطّعة بين الجيش السوري وبين الطليعة المقاتلة، لتكون النقطة الفاصلة هي حصار الجيش لمدينة حماه وارتكابه مجزرة فيها عام 1982، حيث قتل أكثر من 10 آلاف مواطن حسب مختلف المراجع التاريخية التي وثّقت المجزرة. لتكون تلك الأخيرة بمثابة إنهاء لأي حراك معارض لنظام الأسد، ولتتاح له سيطرة أكبر على كل مفاصل الحياة في البلاد منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته في عام 2000.

ربيع دمشق

بعد وفاة حافظ الأسد، اجتمعت مجموعة من المفكرين والكتاب السوريين ذوي التوجّهات المعارضة ليقدّموا مجموعة من المطالب. وتهدف تلك الأخيرة إلى إعادة الحياة السياسية إلى سوريا، تحت سلطة القانون، ولإنشاء إعلام حر، ورفع حالة الطوارئ، وصولًا إلى التعددية الحزبية. سُمِّيَت تلك الحركة بـ “ربيع دمشق“.

وفي البداية، لم يتم قمع تلك المطالب خاصةً أنها لم ترفض وجود بشار الأسد في السلطة. وإثر ذلك، بدأت المنتديات السياسية بالظهور، لكن لم تدم تلك الحال طويلاً. فمجددًا قام الأسد الابن بقمع تلك التحرّكات، واعتقال قادتها وزجّهم في السجون بتهمة مخالفة الدستور.

وعادت سوريا بسرعة إلى سابق عهدها كبلدٍ محكومٍ بنظامٍ ديكتاتوريٍّ خالٍ من أيّ حراك معارض حقيقي، ليستمر الوضع على ما هو عليه حتى بعد اندلاع الثورة ضد نظام الأسد في مارس 2011. حينها بدأ الحراك المعارض يأخذ أشكالًا شتّى، منها المدنية ومنها العسكرية، وصولًا إلى حربٍ مفتوحة بين أطرافٍ عدّة. وبعدها، أضحت سوريا بلدًا مدمّرًا فقيرًا، مقسّمًا بين مناطق سيطرة قوى مختلفة كلّ منها يلقى دعمًا خارجيًا من بلدٍ معيّن. وعلى الرغم من كل ذلك، استمرّ الأسد رئيسًا للبلاد.

Advertisement
Fanack Water Palestine