وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

فرقة الورشة: رائدة المسرح المصري المستقل

على امتداد قرابة أربعة عقود من الزمن، لعبت فرقة مسرح الورشة دورًا محوريًا في تطوير حراك المسرح المصري وتوجيهه نحو التمتع بقدرٍ أوسع من الاستقلالية.

فرقة الورشة
صورة تم نشرها يوم 7 مارس 2021 على صفحة الفيسبوك الخاصة بفرقة الورشة المسرحية.

يوسف م. شرقاوي

تعتبر فرقة الورشة المسرحية من الفرق المسرحية المصرية التي قادت حراك المسرح المصري نحو التمتع بقدرٍ أوسع من الاستقلالية.

ومنذ مطلع القرن العشرين، نشأت في مصر العديد من ورش التمثيل والفرق المسرحية التي ساهمت في تغيير مسار المسرح.

ومن هذه الفرق فرقة نجيب الريحاني التي تأسست عام 1916، ودار التمثيل الزينبي التي أسسها الكوميديان علي الكسار عام 1907، وفرقة رمسيس التي أسسها الفنان عزيز عيد، وأيضاً ثلاثي أضواء المسرح التي جمعت الفنانين الضيف أحمد وجورج سيدهم وسمير غانم.

وأضفت هذه الفرق أثرها على المسرح المصري وغيّرت فيه، كما تمكّنت، بتتابعها الزمني، من تطويره شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى فرقة الورشة.

وأسّس حسن الجريتلي فرقة “الورشة” المسرحية في مصر عام 1987 التي ما تزال ناشطة حتى اليوم. وتُعد الورشة أول فرقة مسرحية مستقلة في مصر.

وقامت هذه الفرقة المسرحية على امتداد قرابة أربعة عقود من الزمن برحلة استكشاف وتجريب خاصة وذات طابع مختلف تماماً عمّا هو تقليدي في المسرح المصري. وتُعد كذلك رائدة المسرح المستقل في مصر، بمسيرة من أعمال متنوعة بين المسرح العالمي والحكي الشعبي والأوبريت والتحطيب وغيرها.

مدخل إلى “الورشة”

يشير معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية إلى أنّ “الورشة” هي المكان الذي يتم فيه تجهيز المناظر المسرحية وإعدادها. واصطُلح كذلك على أنها المكان الذي تجري فيه التدريبات المسرحية وتدريبات الأداء وحرفية الممثل التي ترتبط بأحد الرواد.

وارتبط مفهوم الورش المسرحية بمكان ورش الحرف اليدوية التي تتطلب مهارة ودقة، وتعني حجرة أو بناء يجري فيه إصلاح الأشياء مثل الميكانيكا وغيرها.

هذا بالضبط ما أكده الجريتلي في حديثٍ معه عن أصل التسمية. وفي هذا السياق، قال الجريتلي: “كنتُ أسكن فوق كراج وكنتُ أراقب تركيبة الصبي والمعلم في الورشة والكلّ يلتف حول سيارة واحدة. العمل في الورشة الفنية للسيارات عمل منظم ومن هنا جاءت فكرة الاسم”.

وكانت مفردة “ورشة” غير شائعة حين أسس الجريتلي فرقته. ولم تكن الدورات التدريبية الخاصة بالتمثيل رائجة. وأطلق الجريتلي المصطلح كمفردة استثنائية، لم تكن معروفة بعد، دليلاً على انطلاقه هو وزملاؤه من البحث والاستكشاف والعصف الذهني.

واستمرّ ذلك البحث عبر الأجيال حتى هذه اللحظة كهُوية للفرقة وملمحٍ أساسي من ملامحها، مرتبطة باختلافات ذائقة الجريتلي نفسه وتحولاته.

لمحة عن الجريتلي

قامت فرقة الورشة في الأساس على خبرات مؤسسها حسن الجريتلي، سواء تلك التي اكتسبها خارج مصر أو داخلها.

وتخرّج الجريتلي من جامعة بريستول في المملكة المتحدة بتقدير امتياز في الدراما والأدب الفرنسي. وبعد ذلك، عمل ممثلاً بالمركز القومي للمسرح بمقاطعة الليموزان في فرنسا، بعد نيله دبلوم الدراسات العليا في السينما من السوربون.

وفي نفس المقاطعة، كوّن فرقة مسرحية محترفة تحمل اسم “مسرح الأرض والريح”. واستمر عمل هذه الفرقة لمدة خمس سنوات بين عامي 1975 و1980.

في تلك الفترة أيضاً، قام الجريتلي بعدّة نشاطات محورها العلاقة بين المسرح والتعليم. وإلى جانب مشاريع أخرى حينذاك، قام الجريتلي بجولة للمركز القومي للمسرح في مصر والبلاد العربية.

ويستذكر الجريتلي ذلك بقوله: “خلال عملي في فرنسا، كنت أعود بانتظام إلى مصر، أتابع الحركة الفنية والمسرحية. وعندما امتلكت الصَّنعة التي سافرت لأجلها، بدأ قرار العودة يتشكَّل، وعزّزه الحنين للوطن”.

ويتذكر الجريتلي جيّداً أول مشهد مسرحي قدّمه في حياته وكان حينها في الثالث الابتدائي، مؤكداً على أنّ هذا المشهد حدّد مسار رحلته الفنية والمسرحية.

وقال في هذا السياق: “في التاسعة من عمري، وبينما أمشي في حديقة المدرسة، نادتني المعلمة فاطمة إلى قاعة الموسيقى. كانت في القاعة طفلةٌ جميلة تقف فاردةً يدها اليمنى، أمامها ولدٌ أدار ظهره وعلاماتُ التجهّم باديةٌ عليه، المعلمة قالت لي: جريتلي تبوس إيد سعاد؟ أجبتها: “نعم أبوس إيد سعاد”، فردّت المعلمة: سعاد هي الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث واِنت الخديوي اسماعيل والمناسبة افتتاح قناة السويس.. ومن يومها ما بطلتش أبوس إيد سعاد”.

وعاد الجريتلي إلى مصر عام 1982 عمل بمسرح الدولة بعض الوقت. كما أنه عمل كمساعد للمخرج المصري المعروف يوسف شاهين في بعض أفلامه.

نصحه الكاتب والناقد المصري لويس عوض بالانضمام إلى مؤسسة المسرح الرسمية ففعل الجريتلي ذلك، وعُيّن مديراً لأول مسرح تجريبي في القاهرة عام 1988. إلا أنّ النظام البيروقراطي المتحكم بالعمل الحكومي أثار حنقه، فتفرّغ للمسرح الحر منذ بداية التسعينيات، رابطاً مساره بمسار فرقة الورشة التي أسسها عام 1987.

ويعرّف الجريتلي نفسه على أنه “منشّط للممارسة المسرحية”. ويقول إنه حين درس في بريستول أصبح أكثر انغماساً في الإخراج، وازداد استمتاعه به لأنه مهتم أكثر بالخلفية النظرية والتاريخية للفن.

ولم يستطع بتاتاً الوصول للإشباع مع أي مخرج عمل معه من قبل، نظراً لأن أيهم لم يستطع استحضار الممثل الكامن بداخله. لهذا، فكر أنه قد يكون مخرجاً، بل دراماتورغياً لو لزم الأمر؛ نظراً لكونه شديد الاهتمام بالإلمام بتفاصيل المسرحية البنائية من ديكور ومعمار وخلافه.

الأعمال والإنجازات

يذكر الجريتلي أنّ دور “الورشة” قائمٌ على تدريب أعضاء الفرقة، وآخرين أيضاً، إضافة إلى إنتاج مسرحيات والتجول بها في مصر، وأنحاء العالم العربي والعالمي. كما تتواصل الفرقة مع الفنانين المستقلين حول العالم العربي، لمساعدة الشركات المستقلة. ويتضمن عملها الإدارة والترجمة؛ لترجمة الفنون من ثقافة إلى أخرى، خاصة بسبب المعاناة من أزمة توفُّر مترجمين متخصصين في الأمور الثقافية.

ومن الجوانب المهمة للفرقة هو استعادة دور الحكّاء، لكن ليس بالضرورة الحكَّاء بالأسلوب البريختي، بل الحكّاء بلغة أهل الشارع.

أما الأهداف التي تنطلق منها فرقة الورشة المسرحية فهي التعبير عن المسكوت عنه، ومنح صوت لمن لا صوت لهم في العالم العربي. من هنا، تعبر فرقة الورشة عن المحظورات في العالم العربي، وتهدف إلى دعم الفن المستقل بجميع صوره.

وبدأت نواة الفرقة من الممثلين المعروفين مثل أحمد كمال وعبلة كامل وسيد رجب. وانطلقوا من عرضين بعنوان «يموت المعلم» للروائي والمسرحي النمساوي بيتر هاندكه، و«نوبة صحيان» للمسرحي الإيطالي داريو فو. واعتمدت هذه المرحلة من مراحل العمل على الاقتباس والترجمة والدراماتورجيا لأعمال أجنبية.

وامتدت إلى الشراكة في إنتاج “جلجامش” عام 1988 وكانت أول مسرحية راقصة لفرقة مصرية. ثم إلى تمصير ثلاثية الكاتب الفرنسي ألفريد جاري “أوبو” إلى جانب “المستعمرة التأديبية” للروائي الألماني فرانز كافكا، وأعمال الكاتب المسرحي البربيطاني هارولد بنتر. وطُوِّر العمل على ثلاثية “أوبو” عام 1990 ونتج عنها عرض “داير داير” بنجاح مستمر مدى عامين. كما اشتركت الورشة بها على هامش مهرجان أفينيون عام 1990 وفي المهرجان الدولي للمسرح بزيورخ عام 1991. ومثلت الفرقة مصر في مهرجان قرطاج عام 1991 أيضاً.

بعد هذه المرحلة، أنتجت الفرقة أعمالاً ضربت بجذورها في الثقافة الشعبية، واستقت منها كمنبعٍ أول. ومن تلك الأعمال “غزير الليل” و “غزل الأعمار” و “حلاوة الدنيا” و “محمود درويش شاعر طروادة” وغيرها.

ويحكي الجريتلي عن هاتين المرحلتين ويشير إلى أهمية المرحلة الثانية: “إنّ أهم مرحلة على الإطلاق هي مرحلة شغلنا على التراث الشعبي المصري. ففي فترة معينة بعدما اشتغلنا على إعادة تقييم الميراث الغربي والملف الغربي، عندما رجعنا من أوروبا عملنا نوعا من الغربلة ودخلنا في هذا الميراث وكلّ ما له علاقة بالتمثيل وجسم الممثل والمساحة والسينوغرافيا والديكور والدراماتورجيا. بدأنا بالكتاب الذي جمع قصص الأستاذ فتوح أحمد فرج من السنبلاوين والسيرة الهلالية والمواويل القصصية والتحطيب والرقص وخيال الظل”.

وترتكز الورشة على التدريب على المسرح الشامل. وفي هذا السياق، قال الجريتلي: “لا يوجد شيء من نتاج خيال الشعب المصري، أو ما يسمى الثقافة الشعبية العامة إلا وعملنا عليه، التحطيب -رقص العصا- كافة أنواع الغناء والنواح والعديد، والنكتة وأغاني الحب الفرعونية وغير ذلك”.

معاصرة عقود متعددة من تاريخ مصر

كانت فرقة الورشة المسرحية بمثابة رد على غموض اللحظة وعدم ثبات هويتها، وتحركت كفعلٍ فني وسياسي.

لقد امتدّت فرقة الورشة خلال زمنٍ شهدت مصر فيه تغيرات جذرية على جميع مستوياتها. وعاصرت الورشة وهج مسرح القطاع الخاص التجاري، ثم عاصرت بذور التجديد مع مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وكان الجريتلي أحد القائمين على إدارته.

وبعد ذلك، عاصرت هذه الفرقة المسرحية ميلاد حركة كاملة للمسرح المستقل، بالتزامن مع صعود الفنون المستقلة وطرق الإنتاج الجديدة، وصولاً إلى ثورة يناير 2011 وما بعدها.

وعلى هذا، فقد عاشت فرقة الورشة المسرحية قرابة أربعة عقود من تحولات مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصمدت أمامها.

واحتفلت الورشة في 19 نوفمبر 2022 بعيد ميلادها الخامس والثلاثين، في حفلة أسمتها “ليلة، لكل العيلة”، في فعالية أطلقتها بعنوان “ليالي الورشة”.

Advertisement
Fanack Water Palestine