يوسف شرقاوي
المقدمة
للمجتمع القبلي في مصر وزنٌ إستراتيجي ودورٌ فعّال على المستويات المحلّية والدولية والإقليمية. ويمتدّ هذا الدور ليصل تأثيره إلى القرارات السياسية والأمنية والاقتصادية، سيّما وأنّ الأقاليم التي تتواجد فيها القبائل مواقع ذات أهمية إستراتيجية. هذا الأمر أثّر بطبيعة الحال على قبيلة العبابدة التي تعيش في المناطق الحدودية الفاصلة بين مصر و السودان. وهو ما جعلها تعيش، كغيرها من القبائل المقيمة على الحدود الفاصلة بين أي دولتين، في أوضاعٍ صعبة ومتناقضة. فهذه القبائل “قد تكون خط دفاع أول للأمن القومي، أو قد تكون ثغرة بإدخالها في حروب ونزاعات حدودية”.
قبيلة العبابدة بين مصر والسودان
تُعد قبيلة العبابدة من أهم وأقدم القبائل في مصر. وفي دراسة نشرها المعهد المصري للدراسات، يؤكد شيخ مشايخ العبابدة عبد المجيد عثمان أن أصل القبيلة ونسبها يعود إلى الصحابي عبد الله بن الزبير. ويتفرع عن العبابدة أربع قبائل كبيرة، ومن كل قبيلة تفرعت مئة قبيلة أصغر أو بطون.
أصول القبيلة في مصر تعود إلى صحراء مصر الشرقية، لكن وجودها اليوم لم يعد يقتصر على الصحراء، أو الوديان والجبال، بل امتد ليصل إلى مدن مصر.
وبفضل إقامة العبابدة في المناطق الحدودية الفاصلة بين مصر و السودان ، فقد ربطت هذه القبيلة بين هذين البلدين عبر ترسيخ عادات وتقاليد عمرها مئات السنوات. ويعتبر العبابدة مفتاحاً للشخصية المصرية والسودانية، كما يجيء في كتاب ” الزواج والبيئة في منطقة شلاتين ” لجيهان حسن مصطفى. وكان أبناء القبيلة من العوامل الهامة للتقارب بين الشعبين المصري والسوداني، سيّما وأنهم “تمكنوا من لعب دور مهم في إيجاد لغة حوار مشتركة” بين الجانبين.
وعلى الرغم من التصوّر السائد لأن أبناء هذه القبيلة من أبناء الصحراء، إلا أن الأمر اختلف الآن. وتشير دراسة المعهد المصري إلى عيش الكثير من العبابدة في المدن. وفي الوقت الذي يتمسّك به العبابدة بعاداتهم وتقاليدهم التي توارثوها عن الأجداد، فإنّ ذلك لم يمنعهم من نيل حظ وفير من العلم والمعرفة ومن الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة.
ولا يقل عدد العبابدة عن عشرة ملايين حسب ما يروي شيخ مشايخهم. ومنهم “قضاة، ومستشارون، وأطباء، ومهندسون، وقيادات كبرى في القوات المسلحة، إضافة إلى البرلمانيين”.
حماة الحدود
تنتشر قبيلة العبابدة، حسب “التوزيع الديمغرافي للقبائل في مصر” في جنوب مصر في الصحراء الشرقية، من رأس غارب حتى حلايب وشلاتين. ويزداد عددهم كلما اتجهنا إلى الجنوب.
وتمتد مناطق إقامة القبيلة بين محافظتي أسوان والبحر الأحمر، وتتفرع مساراتها حتى شمال شرق السودان. وكان للعبابدة دورٌ بارز في الدفاع عن حدود مصر الجنوبية وشمال السودان، كما أنهم كانوا سادة الطرقات منذ عصر الرومان. إلا أنهم في الآونة الأخيرة باتوا، بحسب موقع نون بوست “على قوائم التهميش والتجاهل من قبل الحكومة المصرية والسودانية على حد سواء”.
و يقول عثمان عن دور القبيلة في الحماية: “منذ فجر التاريخ، تُعد قبائل العبابدة والبشارية حماة حدود مصر الجنوبية، ويُطلق عليهم محاربي الصحراء. وقد شاركوا في الدفاع عن الوطن في كل الحروب التي خاضتها. وتعود نشأة سلاح حرس الحدود في بدايتها لأبناء العبابدة والبشارية، لأننا نحفظ جيدًا دروب الصحراء، كما أنّنا قصاصون للأثر، وهو ما جعلنا خبراء في هذا المجال”.
تاريخ أبناء الجن
يطلق العبابدة على أنفسهم اسم “أبناء الجن”. وهذا الاسم تحديداً جعل الرومان ينسجون القصص حولهم في أساطيرهم القديمة. وتخيّل الرومان العبابدة بأحجام ضخمة ووجوه مشوّهة وهم يمتطون حيوانات أسطورية هائلة. وبحسب الكاتب محمد كريم ، فقد كان العبابدة في حالة حرب مستمرّة مع الرومان الذين هزموهم في نهاية المطاف. وكان العبابدة يعملون كمرشدين على طرقات الصحراء التي يعرفون دروبها وخباياها تمام المعرفة. ورافق أبناء القبيلة قوافل الحجيج من وادي النيل إلى ميناء عيذاب على ساحل البحر الأحمر. وكانت عيذاب أهم ميناء للتجارة ما بين وادي النيل وموانئ اليمن والهند والبحر الأبيض المتوسط.
وفي أوائل القرن التاسع عشر، قام محمد علي باشا بغزو منطقة العبابدة، وهؤلاء بدورهم لعبوا “دوراً رئيسياً في ضمّ أقاليم السودان إلى مصر”. وهنا، لا بد من الإشارة إلى الدور الحيوي الذي لعبه العبابدة في إرشاد الجيوش عبر دروب الصحراء “التي كان من الممكن أن يهلك فيها الجيش” لولا ما قدمته له هذه القبيلة من مساعدة.
تهميش طويل
منذ عقود، يعاني العبابدة من تهميش الدولة لهم. ويعود السبب في اتهامهم إلى التعامل معهم كـ “مصدر قلاقل في المناطق الحدودية، على خلفيّة أعمال التهريب”. وكثيراً ما صادرت قوات حرس الحدود حيواناتهم التي يرعونها داخل الحدود المصرية بحجّة “الرعي في منطقة محظورة عسكرياً”، لتقوم بعد ذلك هذه القوات ببيع الحيوانات في مزاداتٍ علنية. كما يشكوا أبناء العبابدة من إطلاق القوات الأمنية النار عليهم في هذه المناطق التي يعيشون فيها. وفي نفس السياق، ترفض الجهات الأمنية المصرية تزويد العبابدة ببطاقات شخصية ممكننة كتلك التي يتم تزويد جميع المصريين بها. ويعود السبب في ذلك إلى صعوبة تقديم الخدمات الحكومية في المناطق النائية المتاخمة للحدود السودانية. ولهذا السبب، فإن العبابدة يحملون بصفةٍ عامة بطاقات شخصية ورقية، علماً بأن البعض لا يحمل حتى بطاقات هوية في تلك المناطق النائية بسبب الطبيعة القبلية التي لا تبدي اهتماماً كبيراً للحصول على الأوراق الرسمية من الدولة.
مجتمع العبابدة
في كتاب ” في بلاد العبابدة “، يخصص الدكتور سمير محمد خواسك فصلاً بعنوان مجتمع العبابدة. ويصف خواسك هيئة الجسم عند الرجل والمرأة بقوله: “يتميز جسم الرجل العبادي والمرأة العبادية بالنحافة. ويرجع هذا إلى سببين، أولهما: أنّ بيئتهم تفرض عليهم نشاطاً جسمانياً طوال اليوم للرعي والبحث عن الجمال الضالة والأغنام الشاردة والاحتطاب. أما السبب الثاني فهو ندرة شرب الماء وقلّة الطعام”.
وثمّة بريدٌ من نوعٍ آخر عند العبابدة، هم الرعاة أنفسهم. ويتولى كلّ راعٍ مسؤولية إيصال الرسائل من أسرة إلى أخرى، حيث يتم نقل الرسائل شفوياً.
ويفرح العبابدة بالحرية ويحبونها ويحمدون ربهم أنه لم يخلقهم في المدينة، بل ويشفقون على سكانها. ووفقاً لخواسك، فإن الرجل العبادي “يشارك النساء أعمالهن” والمرأة تحلّ محلّه حين يكون مسافراً. وعلى هذا النحو، فهي تقوم برعي الإبل وبالاحتطاب وصنع الثياب وغزل صوف النعاج والجمال.
الأفراح وليالي السمر
يتم اختيار توقيت الأعراس عند العبابدة ليكون خلال الأيام القمرية للشهور العربية وهي أيام ١٣ و١٤ و١٥. وتبدأ ليالي الأفراح، وفقاً لموقع القبائل ، بما يسمى “الشيلة”. وتحمل كلّ قبيلة “أشياءها الخاصة وهدايا الفرح لتذهب إلى حفل الزفاف”. وتستمر الأفراح سبع أو ثماني ليال.
و تشتهر قبيلة العبابدة بفن الشندئته القائم على تطريز الحرير الأحمر المشدود على سعف النخيل. وفي طقوس احتفالات الزواج، يتم تطريز الحرير الأحمر بالأصداف والخرز وريش النعام ليتم تقديمه للعروس.
ويشارك الأبناء في ليالي السمر بالأغاني وإلقاء الشعر. كما أنّهم يرقصون التربلة، وهي رقصةٌ تكون بالسيف ودرع “الدركه”. ويستخدم المغنون آلة الطمبورة لعزف الأغاني.
الطبيعة
لا يتم المساس بالطبيعة عند العبابدة. وثمّة مقولةٌ شهيرة عندهم مفادها “اقطع رأس رجل ولا تقطع رأس شجرة”. وإذا تعدّى أحدٌ على الطبيعة، فإن يتعرض للعقاب من قبل شيخ القبيلة.
ويتحايل أبناء القبيلة على الطبيعة حتى تكيفوا معها في الأكل والشرب. ويعد خبز القبوري من المأكولات التي تدّل على هذا التكيّف. ولا يتطلب صنع هذا الخبز وجود الأفران أو الغاز أو الكهرباء. كما أنّه يُصنع بدون أوانٍ. ويجهز العجين من الدقيق والماء والملح، ولا يحتاج لوقتٍ للتخمير. ويتم إشعال النار في الحطب حتى يتحول إلى جمر، وبالتالي ترتفع درجة حرارة الرمال أسفله. وبعد إزاحة الجمر جانباَ، يتم حفر حفرة أسفل الرمال الساخنة، أقرب شبهاً من باطن فرن. ويوضع العجين في الحفرة ويتم ردمه بالرمال الساخنة. وبعد ذلك، يتم وضع الجمر فوق الرمال مرة أخرى. وبعد مرور نصف الساعة، يتم إخراج الخبز من داخل الحفرة ويتم تنظيفه من بقايا الرمال والجمر العالق به. أما تسمية “القبوري”، فترجع إلى وضع العجين في حفرة أشبه بالقبر الصغير.
كلّ ذلك يدلّنا على تكيّف العبابدة مع الصحراء التي أطّرت حياتهم ورسمت تفاصيل هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم.