نبيل محمد
المقدمة
ليس من الصعوبة بمكان تتبع حضور القضية الفلسطينية تاريخياً في إنتاجات السينما المصرية، أقدم وأعرق السينمات في العالم العربي. ويعود ذلك بصفةٍ أساسية إلى أنّ كم تلك الأفلام ليس كبيراً إذا ما قورن بمجمل الإنتاجات السينمائية المصرية منذ عهد البدايات وحتى يومنا هذا.
وكأيّ قضية سياسية أو اجتماعية كانت موضوعاً للأفلام المصرية، فإنّ النسبة الأكبر من الأفلام المصرية تتبّعت موقف وخط السلطة المصرية تاريخياً في تعاملها مع قضية فلسطين. ويعود السبب في هذا التوجّه إلى تأثير القضية الفلسطينية بمرحلة من المراحل في التغيرات السياسية لنظام الحكم في مصر. في المقابل، فإن الأفلام غير التجارية القادرة على صياغة رؤية خاصة بمعزل عن الموقف الرسمي للدولة، أو حتى تلك التي عكست الموقف الجماهيري المصري تجاه فلسطين، كانت نادرة الوجود.
سينما النكبة
على الصعيد السياسي، كانت حرب فلسطين 1948 مسبباً أساسياً في التغيير السياسي في مصر. وكانت حركة الضباط الأحرار التي أطاحت بحكم الملك فاروق عام 1952، متأثرة بشدّة بدور مصر في الحرب، وصفقات الأسلحة الفاسدة التي تورّط فيها الملك فاروق ومؤسسته السياسية والعسكرية بشكل مباشر. هذه الحرب، دفعت ضباطاً من الجيش بقيادة محمد نجيب للانقلاب على الملكية التي حكمت مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر.
دور الحرب في تغيير وجه مصر السياسي كان ذا حضورٍ فاعل في السينما المصرية في عقد الخمسينات. ولعلّه بدأ قبل ذلك، مع فيلم “فتاة من فلسطين” المنتج سنة 1948، من بطولة وإخراج محمود ذو الفقار. ويسير الفيلم بسيناريو كلاسيكي مطابق للرائج في السينما المصرية في تلك الفترة، لكنه حاكى القضية الفلسطينية مباشرة، من خلال علاقة حب بين طيار مصري سقطت طائرته في قرية فلسطينية، وفتاة فلسطينية تقوم بالعناية به، وبدعم الثوار الفلسطينيين ضد الصهاينة.
يظهر الجيش المصري في الفيلم بصورة مطابقة لما كانت تصدّره السلطة المصرية حينها، كجيش فاعل في الحرب، فدائي مقبل على القتال، تربطه بفلسطين صلة دم، يعتبر فلسطين قضيته الأولى. هذه صورة وإن بدت مخالفة لدور الجيش المصري وقيادته آنذاك خاصّة مع فضائح صفقات الأسلحة، إلا أنّها لا بدّ استمرت كصورة نمطية في أعمال سينمائية مصرية لسنوات طويلة.
في عقد الخمسينات، وبعد تنحية الملك فاروق، استمرت قضية حب المقاتل المصري للفتاة الفلسطينية بالصيغة ذاتها. إلا أن قضية الأسلحة الفاسدة بدأت بالحضور، بل لعلّها باتت السمة الرئيسية لسينما الخمسينات التي تناولت قضية فلسطين. ففي فيلم “أرض الأبطال” الذي أخرجه نيازي مصطفى عام 1953، أدّت تلك الأسلحة إلى فقدان مقاتل مصري لبصره في حرب عام 1948، مع العلم أن والده هو مورّد هذه الأسلحة.
الأسلحة ذاتها أودت بحياة العشرات وتسبّبت في بتر ذراع ضابط مصري آخر في فيلم “الله معنا” المنتج سنة 1955. وكان هذا الفيلم من تأليف إحسان عبد القدوس، الكاتب والصحفي الذي يعتبر المسؤول الأول عن فضح قضية الأسلحة الفاسدة عندما نشر تحقيقاً حولها في مجلة روز اليوسف سنة 1950. الضابط الضحية في الفيلم عاد إلى مصر ليكافح ضد السلطة التي فعلت ما فعلته. وكانت فيما بعد حركة الضباط الأحرار المنقذ له وللجيش وللبلاد، ليأتي الفيلم ملائماً للدعاية السياسية ومحددات الرقابة في مصر في تلك الفترة.
وكان طرح قضية سياسية في السينما المصرية، بشكل تقليدي في عقد الخمسينات والستينات وما بعد ذلك أيضاً، مغامرة إنتاجية بشكل ما. وبكلماتٍ أخرى، فقد كانت السينما في تلك الفترة عملاً تجارياً بحتاً، موضوعاتها المكررة تلقى إقبالاً جماهيرياً، وتتبع ذائقة الجمهور بشكل واضح. وتحكي النسبة الأكبر من الأفلام المنتجة قصصاً مشابهة بل متطابقة في بعض الأحيان. واستوحيت الأفلام النادرة التي ناقشت قضية فلسطين من الهوية ذاتها، مع محاولات في طرح ما هو مختلف بين حين وآخر لتقديم الجديد، كفيلم “أرض السلام” المنتج سنة 1957.
الفيلم الذي أخرجه كمال الشيخ قدّم قصة مشابهة عن حب مقاتل مصري لفتاة فلسطينية أثناء الحرب. إلّا أنه حاول في الوقت نفسه خلق مميزات جديدة من خلال استخدام اللهجة الفلسطينية، وتوظيف نجوم الصف الأول في الفيلم، حيث لعب بطولته كل من فاتن حمامة وعمر الشريف. كما ركّز الفيلم على جرائم الاحتلال التي لم تكن حاضرة بقوة في أفلام سابقة. وقد يعود الاهتمام الجدي والظاهر في هذا الفيلم بالقضية إلى أنه جاء بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 الذي كانت إسرائيل طرفاً أساسياً فيه.
في عقد الستينات، بدأت الأدوات تتطور بشكل عام. وبدأت كاميرات مخرجين أكثر احترافاً واشتغالاً على أعمالهم تظهر. وانعكس ذلك بلا شك على مختلف مضامين تلك الأفلام، ومنها أفلام قضية فلسطين. وفي هذا العقد، كان الفيلم الذي يعتبر الانتقال الأول باتجاه أبعاد غير مباشرة للصراع العربي الإسرائيلي، وهو فيلم “الناصر صلاح الدين” للمخرج يوسف شاهين سنة 1963. وفي الوقت الذي يجري فيه تصنيف هذا الفيلم في سياق السينما التاريخية، إلا أنه يظهر كعلامة فارقة في كلّ موقع لتناول قضية فلسطين في السينما. ويعود السبب في ذلك إلى هويته السينمائية التي لم يتبع فيها المخرج التاريخ حرفياً، بل إن أحداثه لاقت نقداً ومعارضةُ من قبل مؤرّخين وأطراف شتّى.
الفيلم ذهب باتجاه الترميز واستمداد الواقع من التاريخ. فالغرب الذي جاء بالحملة الصليبية باسم الدين، هو اليوم أيضاً يبني دولة في الأراضي الفلسطينية باسم الدين أيضاً.. الدين باختلاف رموزه هو غلاف السياسة والحرب واحتلال الشعوب، وفق ما قدّمه شاهين.
سينما نكسة حزيران
الاختلاف الذي حققته نكسة حزيران في رؤية القضية الفلسطينية انعكس على الثقافة بشكل عام وليس السينما فحسب. وبدأت إسرائيل تأخذ مكانها بشكل أوضح كعدو مباشر لدول عربية أخرى. وبدأ الصراع يأخذ بعده العربي العام أكثر فأكثر، خاصة في مصر وسوريا بعد احتلال أجزاء من أراضيهما إثر نكسة 5 يونيو 1967.
وعليه، بدأ شكل جديد من السينما المصرية بالظهور إنّما بشكل خجول، على اعتبار أن القضية هي قضية هزيمة. ولعل الهزائم لم تكن يوماً موضوعاً جاداً للنقاش في السينما العربية التي تتماشى مع السلطات السياسية وتخضع للرقابات المتعددة. وبصفةٍ عامة، لم تسمح هذه السلطات للهزيمة الواضحة بأن تكون جزءاً من الثقافة التي يتلقاها الجمهور في دور السينما، وأمام الشاشات الصغيرة أيضاً. لذلك، فإن أفلام النكسة لا تقارن كمّاً ونوعاً بتلك الأفلام التي جاءت بعد حرب أكتوبر 1973.
فيلم “أغنية على الممر” للمخرج علي عبد الخالق كان أبرز الإنتاجات التي تحدثت عن الهزيمة، وقد أنتج سنة 1972 أي بعد خمس سنوات منها. ويحكي الفيلم قصة جنود مصريين محاصرين ينتظرون أمر الحرب، ولكلّ منهم قصة حزينة مرتبطة بشكل أو بآخر بالراهن السياسي. عند عرض الفيلم في الصالات، كثرت حالات إغماء مشاهدين متأثرين بأحداثه وبرسالته التي تحكي قصة الهزيمة، تلك التي ظهرت بشكل غير مباشر في بعض الأفلام. الفيلم كان خالياً من الرصاص والحرب، وإنما يرصد انعكاس النكسة على المجتمع المصري.
ولعلّ أبرز الأفلام كان فيلم “ثرثرة فوق النيل” سنة 1971، للمخرج حسين كمال عن قصة لنجيب محفوظ. ويروي الفيلم حكاية مجموعة من المصريين من مشارب ومهن مختلفة يجتمعون على نهر النيل ليحكوا قصصهم ويومياتهم التي تعكس حياتهم ما بعد النكسة. ولعلّ هذا النموذج كان أكثر حضوراً في سينما نهاية الستينات ومطلع السبعينات، وحمل أثراً أكبر، وخرج بأفلام صنّفت ضمن أفضل الإنتاجات المصرية في السينما تاريخياً.
سينما ما بعد حرب أكتوبر
قلّة أفلام ما بعد النكسة قابلتها وفرة أفلام ما بعد حرب 6 أكتوبر 1973. ويعود ذلك بالدرجة الأساسية لتعامل السلطة المصرية مع الحرب بأنها حرب انتصار، وتسويق هذا الانتصار في مختلف أشكال الثقافة ومنها السينما. وبصورةٍ مُلفتة، انشغلت السينما بعد الحرب بانتصار الجيش المصري، وليس بالقضية الفلسطينية بشكل مباشر.
فلسطين غابت غالباً كقضية، وحضرت الحرب بشكل كلاسيكي، ممتزجةً بقصص الحب المواكبة لها. ولعل النموذج الأوضح والأشهر لتلك الأفلام كان “الرصاصة لا تزال في جيبي” من إخراج حسام الدين مصطفى سنة 1974. ويروي الفيلم قصة المقاتل المصري الذي تعرض للحصار بعد نكسة حزيران، وعاد محطّماً إلى قريته. لكن الحرب فيما بعد ستكون هي الخلاص من كلّ مشكلاته، ويأتي زواجه من حبيبته بعد الانتصار. وكان بطل هذا الفيلم محمود ياسين الذي لعب بطولة أكثر من 7 أفلام موضوعها حرب أكتوبر.
لم يحدِث توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل سنة 1978 تغييراً يذكر في تناول السينما المصرية للقضية الفلسطينية وقضية الصراع مع إسرائيل. ولم تتعرّض الاتفاقية لهجوم مباشر من خلال السينما خاصة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات الذي وقّع الاتفاقية. ولكن لاحقاً، تم استهداف هذه الاتفاقية بطريقة هامشية في بعض أفلام التسعينات والألفية الجديدة.
وبعد توقيع الاتفاقية، راجت سينما الجاسوسية التي مجّدت العمل الاستخباراتي المصري. ففي عام توقيع الاتفاقية، قدّم كمال الشيخ فيلم “الصعود إلى الهاوية”. ويروي هذا الفيلم قصة الجاسوسة المصرية هبة سليم التي جنّدتها إسرائيل ثم كشفتها فيما بعد السلطات المصرية، وأعدمتها. واستمر إنتاج هذا النوع من الأفلام بقوة خلال عقد التسعينات وكان أبرزها “مهمّة في تل أبيب” عام 1992 و“48 ساعة في إسرائيل” عام 1998، و“فتاة من إسرائيل” عام 1999.
ناجي العلي: الفيلم الصدمة
في 1991، قدّم المخرج عاطف الطيب الفيلم الذي أحدث ضجّة في عالم السياسة والفن في مصر. هذا الفيلم كان “ناجي العلي“ الذي سرد قصة رسّام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر ولعب بطولته نور الشريف.
وبعد عرضه مباشرةً، جُنّد الإعلام الرسمي للهجوم على الفيلم. وتمت قراءة الفيلم كاستهداف للنظام المصري، على اعتبار أن ناجي العلي هاجم السلطات المصرية بقوّة عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وهاجم كلّ الدول والتيارات العربية التي تتجه نحو التطبيع مع إسرائيل، وانتهت حياته اغتيالاً في لندن 1987.
كان فيلم “ناجي العلي” حالة استثنائية وصادمة في أواسط السينما المصرية. وتعرّض مخرج الفيلم وبطله لهجوم كبير حينها، بل لعزلة شاملة. وتم اتهام القائمين على الفيلم بالخيانة والتواطؤ مع الرئيس الليبي معمّر القذافي، حيث شاع عند عرضه أنه من تمويل ليبي وهو ما نفاه القائمون على الفيلم حينها.
من المآخذ الأخرى التي تعرض لها الفيلم عدم تركيزه على حرب أكتوبر مقابل التركيز على نكسة حزيران، وهو ما يؤكّد التوجه الرسمي نحو تغييب الهزيمة مقابل الإضاءة على الانتصار.
الشخصية المصرية في الفيلم ظهرت بطريقة أثارت الإعلام المصري. ولم تظهر في الفيلم سوى شخصية مصرية واحدة لعبها الفنان محمود الجندي، وهي لشاب دائم السكر، يعيش حياته منتظراً قدوم الجيوش العربية دون جدوى. ورأى منتقدو هذه الشخصية أنها تشير إلى الضعف المصري، وتقزّم من دور مصر في القضية.
سينما ما بعد أوسلو ووادي عربة
بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين الفلسطينيين والإسرائيليين واتفاق وادي عربة عام 1994 بين الأردن وإسرائيل، كان التوجه السياسي في مصر وغالبية الدول العربية نحو السلام. وتم التعامل مع إسرائيل على أنها أمر واقع، في حين تم التضامن بين حين وآخر مع القضية الفلسطينية.
وعلى هذا النحو، فقد كان حضور القضية الفلسطينية في السينما المصرية مواكباً للتوجه السياسي المصري. فقد ظهرت هذه القضية كضيف مفاجئ وسطحي ويختفي سريعاً في بعض الأفلام، خاصة التجارية منها. ومن الأمثلة، مشهد حرق طلاب الجامعة لعلم إسرائيل في فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” عام 1998 ورفض العامل المصري في أوروبا العمل مع شخصية يهودية في فيلم “همام في أمستردام” عام 1999.
وفي بعض الحالات، ظهرت القضية بشكل أوسع، كرفض وجود السفارة الإسرائيلية في فيلم “السفارة في العمارة” عام 2005. لكن التعامل مع القضية الفلسطينية، وبكافة أشكال الظهور، كان من باب التضامن، وبطريقة قد تدفع بطل الفيلم للبكاء من أجل هذه القضية في لحظة رومانسية.
حضور القضية الفلسطينية في السينما الجادّة كان نادراً خلال الأعوام الثلاثين الماضية. وكان الاستثناء الأهم فيلم “باب الشمس” الذي أخرجه يسري نصرالله عام 2004. واستوحي الفيلم عن رواية تحمل الاسم ذاته للروائي اللبناني إلياس خوري، وبطولة فنانين من مختلف البلدان العربية. ويحكي هذا الفيلم المأساة الفلسطينية على امتداد 50 عاماً. ولعلّه من الأفلام العربية القليلة التي واجهت هجوماً من قبل مؤسسات إعلامية ورسمية إسرائيلية.
لكن إطلاق صفة “فيلم مصري” على “باب الشمس” قد لا يكون أمراً عادلاً، حتى إن بناءه وطريقة طرحه وصورته لا ينتمي للسينما المصرية، خاصة في مطلع القرن الواحد والعشرين. الفيلم كان عربياً بنصّ لبناني ومخرج مصري وأبطال سوريين ولبنانيين ومصريين وتونسيين وغيرهم، وبإنتاج أوروبي وعربي. وقد صنفته مجلة “تايم” الأمريكية في قائمة أفضل 10 أفلام أُنتجت في عام 2004.
سينما اليوم
بات حضور غالبية الأفلام المصرية التي تحمل موضوعاً سياسياً أمراً صعباً أمام واقع الرقابة الثقافية والفنية التي تمارسها الدولة المصرية. وعلى سبيل المثال، فقد بات وجود فيلم مصري يتحدث عن الفقر في الأرياف (فيلم ريش – 2021) مدعاة لهجوم الصحافة الرسمية وشبه الرسمية عليه لأنه يناقض الدعاية الرسمية التي تتحدث عن الجمهورية الجديدة في مصر. بالتالي، من الصعب أن يتم حضور أي قضية سياسية إلا بعد أخذ التحديات والعواقب بعين الاعتبار.
أما حضور القضية الفلسطينية اليوم في فيلم مصري فهو نادر جداً، ولعلها غير موجودة أبداً، لا كقضية أساسية للفيلم ولا حتى في الهوامش. بل إنّ وجود فيلم مصري جاد خلال السنوات الخمس الماضية كان أمراً غاية في الاستثنائية مع اختلاف ضوابط الإنتاج وآليات صناعة السينما في مصر وقبل كل ذلك أولويات الجمهور.