رغم الإجراءات القانونية الرادعة وموقف المؤسسات الدينية المندّد، لطالما كان التحرش الجنسي ظاهرة اجتماعية سائدة في مصر.
علي العجيل
يعاني المجتمع المصري بصورة خطيرة من ظاهرة التحرّش. ولا يمكن التحديد بدقة متى ظهر التحرش لأول مرة في مصر. ومع ذلك، تشير بعض المراجع إلى أنّ أقدم ذكر لتحرش الرجال بالنساء جاء في أحد مقالات “مصر الفتاة” الصادرة يوم 29 ديسمبر عام 1908. وقارن المقال بين تصرفات الرجال في إسطنبول ونظرائهم في مصر. ففي حين كانت شوارع إسطنبول “بالغة التهذيب”، فإن الرجال في مصر كانوا يسعون لـ “الاحتكاك بالنساء والتحرش بهن”.
وتعتبر مرحلة الأربعينيات البداية الفعلية للتحرش. وكانت البداية على شكل معاكسات لفظية، وزخر المجتمع المصري بالحوادث الأسبوعية آنذاك والشكاوى المتكررة بسبب هذا الموضوع.
المقال سابق الذكر يؤكد أنّ ظاهرة التحرش لم تنتج فقط خلال السنوات الثلاثين الماضية كما تقول بعض وسائل الإعلام ويظن البعض. ومع ذلك، فقد وصلت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة إلى مراحل خطيرة.
وبحسب دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في عام 2013، فإن 99.3 بالمئة من النساء في مصر تعرضن للتحرش الجنسي خلال حياتهن. ووفقاً لنفس الدراسة، فإن 82.6 بالمئة لا يشعرن بالأمان خلال تواجدهنّ في شوارع مصر ومواصلاتها العامة.
القانون والتحرّش
تم استخدام مصطلح “التحرش الجنسي” في العالم العربي للإشارة إلى المعاكسات والمضايقات لأول مرة في السبعينيات. أما لفظة التحرش وحدها، فكانت تعني مصطلحاً سياسياً يشير إلى احتكاك دولة بحدود دولة أخرى.
ويشتمل القانون المصري على أربعة أنواع رئيسية للتحرش الجنسي. ويأتي التحرش الجسدي في مقدمتها. ويشمل هذا النوع من التحرش أي نوع من أنواع الاتصال الجسدي غير المرغوب فيه، مثل اللمس أو الاحتكاك أو الاعتداء الجنسي.
بعد ذلك، تأتي المضايقات اللفظية. ويشمل هذا النوع من المضايقات أي نوع من المقدمات الجنسية اللفظية غير المرغوب فيها. ومن الأمثلة على هذه المضايقات التعليقات حول جسد شخص ما أو الأنشطة الجنسية المختلفة.
النوع الثالث هو التحرش المرئي. ويشمل هذا النوع من التحرّش كلّ شكلٍ من أشكال التقدم الجنسي المرئي غير المرغوب فيه. ومن الأمثلة على هذا النوع إظهار الشهوة أو التحديق أو عرض مواد جنسية صريحة.
أما النوع الرابع فهو المضايقات عبر الإنترنت. وتشمل تلك المضايقات أي نوع من أنواع المقدمات الجنسية غير المرغوب فيها عبر الإنترنت. ومن الأمثلة على ذلك، إرسال الرسائل أو الصور الجنسية الصريحة، أو إنشاء ملفات تعريف مزيفة على الإنترنت بغرض الإغراء الجنسي.
ويُعاقب القانون المصري على التحرش باللمس بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات وغرامة تصل إلى مئة ألف جنيه مصري. أما عقوبة التحرش اللفظي، فهي غرامة تصل إلى عشرة آلاف جنيه مصري، أو السجن لمدة تصل إلى عام واحد، أو كليهما. وتضاعف العقوبة إذا كانت الضحية قاصراً، وثلاث مرات إذا كان الجاني موظفاً حكومياً.
ومع ذلك، يبقى تطبيق أحكام التحرّش بحق المتحرشين أمراً شائكاً. وفي هذا الصدد، يقول الخبير القانوني أحمد صالح لفنك: “من أجل إثبات جريمة التحرش الجنسي في القانون المصري، يجب على الضحية تقديم دليل على أن المتهم قد أجرى محاولات أو تعليقات جنسية غير مرغوب فيها، وأنّ هذه التعليقات تم إجراؤها بطريقة تجعل الشخص العاقل يشعر بالإهانة. كما يجب أن تثبت الضحية أيضاً أنها تعرضت لشكلٍ من أشكال الأذى نتيجة التحرش. وهذا الأمر مثيرٌ للجدل، بسبب خوف الفتاة من العار أولاً، الأمر الذي يجنبها البوح بالتجربة أو تقديم شكوى. كما أن النساء غالباً ما لا يثقن في القانون”.
ويشير صالح إلى أنّ وجود مشكلة أخرى في هذا الصدد، وهي جواز التصالح إذا رغبت الضحية في ذلك. وينتهي الأمر كلّه بتوقيع الجاني على تعهد بعدم ارتكاب الجريمة مرة أخرى ودفع غرامة فقط.
استطلاع
أجرى فنك استطلاع رأي عبر موقع التواصل فيسبوك حول ظاهرة التحرّش. وشارك في الاستطلاع 100 امرأة بمتوسطٍ عمريّ يتراوح بين 18 و40 عاماً. وتجدر الإشارة إلى تعرّض غالبية المشاركات في الاستطلاع للتحرش، على الأقل مرة واحدة خلال حياتهنّ.
ووفقاً لإحدى المشاركات في الاستطلاع، فإن خطورة التحرّش تزداد “في وسائل النقل والمنزل والشارع والعمل، وبشكل يومي ومتكرر”.
واتفقت أغلب المشاركات على أنهنّ قد تعرضنّ للتحرش وبأكثر من طريقة ونوع “بدءاً من الكلام القبيح في الشارع، وليس انتهاءً بمحاولات الاحتكاك بهن ولمس أجسادهن بطريقة غير لائقة في العمل ووسائل النقل العامة”.
وبحسب المشاركات في الاستطلاع، فإن مصر تشهد عشرات وربما مئات جرائم التحرش الجنسي المرتكبة يومياً بحقّ الفتيات والنساء والأطفال. وللعلم، فإنّ هذه الجرائم تجري دون أدنى محاولة من أي جهة لمنع حدوثها أو تغطيتها على الأقل.
لا أمان حتّى في المنزل
إحدى المستطلعات، وهي طالبةٌ جامعية تقيم في القاهرة، أكدت لفنك أنها والدها تحرش بها لمدة عام كامل. وفي هذا الصدد، تقول: “أول شخص قام بالتحرش بي هو والدي. ولا أقصد هنا زوج أمي. لا، أن أقصد والدي الحقيقي نفسه. كان في البداية يحتك بجسدي بطريقة غريبة، ثم صار يفتح عليّ باب الحمام فجأة، أو يراقبني وأنا أبدل ثيابي. وعندما أخبرت والدتي بالموضوع، لم تصدقني ووبختني بشدّة. وحتى في المرة التي شاهدته وهو ينظر لي من فتحة باب الحمام، لم تحرك ساكناً”.
وأضافت: “حتى أصدقائي الذين جرّبت البوح لهم بما يحدث لي لم يصدقوني، واتهموني بالجنون. هذا الأمر جعلني أقبل بالزواج بأوّل شاب تقدم لخطبتي، مع أنني في التاسعة عشرة من عمري”.
مشاركةٌ أخرى في الاستطلاع لها قصةٌ مشابهة، لكن مع خالها. وتقول هذه المشاركة: “كان يستغل صغر عمري وعدم فهمي للكثير من الأمور في سبيل تفريغ كبته. عندما كبرت وتعرفت أكثر على هذه الأمور، صرت حاقدة وكارهة حتى لنفسي. تخيّل أنّ كلّ ذلك كان يحدث لطفلة في السابعة من عمرها”.
التحرش اللفظي
التحرّش اللفظي ترك وقعاً كبيراً في نفس العديد من المشاركات في الاستطلاع. وفي هذا الصدد، تقول الخبيرة النفسية أسماء طارق لفنك: “مثل هذه الكلمات، أو غيرها، قد تجعل الفتاة مكتئبة وخائفة لفترة طويلة. وقد تدفع بها إلى الانتحار أحياناً، خصوصاً إن لم يصدق أحد قصتها ويساعدها على تخطي هذه المرحلة”.
إحدى المشاركات في الاستطلاع شاركتنا حادثة تحرّشٍ لفظية حدثت لها مؤخراً. وتقول هذه المشاركة: “قبل عدة أيام، لحق بي ثلاثة شبان وأسمعوني كلمات كثيرة لم أسمعها من قبل في حياتي. عدت إلى المنزل مسرعة وخائفة. والكلمات التي قالوها ما زالت تدور في رأسي وتقضّ مضجعي”.
مشاركةٌ أخرى الاستطلاع، وهي صيدلانيةٌ مقيمة في الإسكندرية، عاشت نفس التجربة، لكنّ المتحرّش كان شخصاً تعرفه حق المعرفة. وحول هذه التجربة، قالت: “تعرفت على هذا الشخص عن طريق بعض الأصدقاء. وكان الجميع يصفه بالمهذب. لكنه أسمعني في إحدى المرات كلماتٍ غير لائقة أبداً. وأخذ يكرّر تلك الكلمات في كلّ مرّة يراني فيها. وكان ذلك بحجة أنه يقوم بمغازلتي”. وتضيف: “في البداية، خفت ألّا يصدقني أحد. لكنني تجرّأت بعد أن أخبرتني صديقةٌ مشتركة ذات مرة أنه يقوم بالفعل نفسه معها. فقمنا بطرده خارج قوائم جلساتنا واجتماعاتنا”.
التحرش الإلكتروني
باتت حالات التحرّش الإلكتروني واسعة الانتشار في مصر. وقد يصل الأمر بالمتحرشين إلى حد ابتزاز من يتحرّشوا بهنّ عبر تركيب صورهنّ في أوضاعٍ مخلّة. وفي هذا الصدد، تقول إحدى المشاركات: “نادراً ما تجد فتاة لم تتعرض لهذا النوع بالذات من التحرش. وفي كثيرٍ من الأحيان، يرسل المتحرشون صور مخلّة أو مقاطع إباحية لمن يتحرّشن بهن. وقد يصل الأمر أحياناً إلى سحب الصور التي نضعها في صفحاتنا الشخصية، ووضع وجوهنا على جسد امرأة ما متعرية، ثم تهديدنا بعد ذلك وابتزازنا بها. لذلك، لا تقوم أغلب الفتيات بنشر صورهنّ الشخصية للعامة. كما أنهنّ يتجنبن فتح رسائل غير الأصدقاء”.
بيئة عمل مرعبة
يرى قسمٌ كبير من المشاركات في الاستطلاع أن بيئة العمل المصرية أكثر بيئة مخيفة وغير آمنة في العالم العربي، إن لم يكن في العالم كله. وتشير بعض المشاركات إلى تعرضنّ للكثير من المضايقات سواء من الزملاء أو سائق الحافلة أو مدير العمل نفسه.
إحدى المشاركات في الاستطلاع عاشت تجربةً مغايرة في هذا الخصوص، سيّما وأنها ابنة صاحب العمل نفسه. وفي هذا السياق، تقول: “لا أخبر الموظف الجديد أنني ابنة صاحب العمل. وأطلب من الجميع ألّا يفعلوا ذلك. وعندما ألاحظ وجود أي سلوكٍ غريب منه أو غير أخلاقي، فإنني أقوم بطرده فوراً بعد إخبار والدي. حتى اليوم طردت 13 شخصاً”.
القانون حبرٌ على ورق
اتفقت أغلب النساء المشاركات في الاستطلاع على عدم اللجوء للقانون عند تعرضهن للتحرش لأسبابٍ عدّة. وأول هذه الأسباب هو الخوف من الفضيحة، لا سيّما في ظل نظر شريحة من المجتمع إلى الفتيات اللواتي يتوجهن إلى أقسام الشرطة للإبلاغ عن حالات التحرّش بطريقةٍ سلبية.
وأبدت عدّة مشاركات عدم ثقتهنّ بالقانون نفسه والقائمين على تنفيذه. وفي هذا السياق، تقول إحدى المشاركات في الاستطلاع، وهي مدرّسةٌ تقيم في القاهرة: “ذهبت إلى أحد أقسام الشرطة لتقديم شكوى بحقّ شخصٍ تحرّش بي. المفارقة كانت عندما تحرّش ضابط الشرطة نفسه بي. كيف يمكن أن أثق بمتحرشٍ يريد حمايتي من متحرّشٍ آخر؟”.
النسوية
للحركة النسوية في مصر يدٌ قوية في مواجهة ظاهرة التحرش. وساهمت هذه الحركة في تسليط الضوء على هذه الظاهرة، فضلاً عن شنها لحملاتٍ كبيرة ضد الجناة ولرفع وعي النساء بالتحرّش وكيفية التعامل معه.
الناشطة النسوية المصرية غادة جهاد أكدت لفنك خطورة ظاهرة التحرش الجنسي وانتشارها المخيف في مصر، ووجوب العمل السريع على معالجتها. وقالت جهاد: “حتى عام 2005، لم يتم تعريف ظاهرة التحرش كمشكلة جندرية تواجهها المصريات. إلا أنّ تعرُّض ناشطات سياسيات وصحافيات للتحرش الجنسي على يد مجموعات منظمة من المأجورين، فيما عرف بـ”الأربعاء الأسود“، شكّل منحنى مفصليّاً في بلورة المفهوم وترديده داخل الأوساط الحقوقية. كما أنّ هذا الحدث ساهم في ظهور حركات ومبادرات متتالية لمناهضة التحرش والعنف ضد المرأة”. وتضيف جهاد: “كان الخوف من العار والفضيحة أو القتل أحياناً يمنع النساء فيما مضى من التحرك ضد هذه الأفعال، وما يزال”.
وترى جهاد أن المشكلة الرئيسية تكمن في المجتمع الذي يوسم المرأة الضحية ويلومها منفردةً. وتقول جهاد: “في أغلب الأحيان، يقف المجتمع في صف الجاني، رافضاً معاقبته أو الاعتراف بالوقائع”.
الدين
في بيان صدر عنه في عام 2018، أكد الأزهر الشريف على أن “تجريم التحرش والمتحرش يجب أن يكون مطلقاً ومجرداً من أي شرط أو سياق”.
ورفض الأزهر في بيانه أي محاولة لإلقاء اللوم على النساء في التحرش الجنسي، معتبراً أن هذا النوع من المحاولات “يعبّر عن فهم مغلوط لما في التحرش من اعتداء على خصوصية المرأة وحريتها وكرامتها”. ودعا الأزهر إلى تفعيل القوانين التي تجرّم التحرش وإلى رفع الوعي المجتمعي بأشكال التحرش وخطورته.
وفي نفس السياق، ينظر القائمون على الكنيسة القبطية في مصر إلى التحرش كـ “سلوك خاطئ وانحراف أخلاقي خطير، لأنه خطية، والله يكره الخطية، لكنه يعطى الفرصة للغفران، إن تاب المخطئ ورجع عن طريقه الخاطئ وطلب من الله الغُفران”.
ومع ذلك، فإن هناك بعض رجال الدين الذين ما زالوا يلقون باللوم في وقوع حالات التحرّش على النساء. وعلى سبيل المثال، يقول الداعية المصري عبد الله رشدي: “”مشكلة التحرش لا يجب أن تتوقف عند المتحرش وجريمته، بل يجب أن نعالج الأسباب. وعلاج الأسباب يعني أن توضع الملابس الفاضحة في جملة مفيدة كسبب. لا بد أن نعالجه لمخالفته الشرع والعرف معاً”.
وفي منشور سابق نشره على موقع فيسبوك، كتب رشدي: “من تستعرض جسدها بزي فاحش أمام شباب تملؤه الرغبة ويمنعه الفقر فهي شريكة في الجرم”.