وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

شم النسيم: عيدٌ يجمع المصريين

يظهر شم النسيم التراث الفرعوني الحقيقي لمصر ويحتفل به جميع المصريين على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم الدينية.

شم النسيم
صورة تم التقاطها يوم 9 إبريل 2018 لمصريين وهم يسيرون في نزهة على طول أحد فروع النيل في بلدة ملوي الجنوبية، أثناء احتفالهم بشم النسيم، وهو عيد فرعوني يمثل بداية الربيع. Ibrahim EZZAT / AFP

يوسف م. شرقاوي

يعتبر شم النسيم أحد أهم الأعياد التي تجمع المصريين ببعضهم البعض. ويحتفل بهذا العيد كلّ المصريين على مختلف مشاربهم الدينية والطبقية والمجتمعية.

وينتظر المصريّون كلّ عام هذا العيد الذي يعتبر عيدهم الأقدم وصلتهم الأكبر بموروثهم الفرعوني. وأثناء الاحتفال بشم النسيم، يستعيد المصريون ميراثهم من أجدادٍ سبقوهم بآلاف الأعوام. وهم يستندون في مقاربتهم تلك على مأثورهم الشعبي القائل: “من فات قديمه مات”، أو قول تحتمس الثالث: “حكيمٌ من يستمع إلى قول الأسلاف الأولين”.

ويُعَد هذا العيد مصرياً خالصاً، مثله مثل يوم “وفاء النيل” الذي احتُفِل به في زمنٍ قديم.

لمحات

يعتبر الباحثون والمؤرخون أنّ شم النسيم ربّما يكون العيد الوحيد الذي نجا من صهره أو دمجه داخل أي منظومة عقائدية أو دينية. وبقي هذا العيد عيداً قومياً وهوياتياً، أو عيداً من أعياد الطبيعة.

في حديثٍ خاص لفنك، يقول د. شريف شعبان، وهو محاضر متخصص بالتاريخ والآثار بجامعة القاهرة ومسؤول التنمية الثقافية بوزارة السياحة والآثار المصرية، إنّ عيد شم النسيم يمثل احتفال المصريين بقدوم الربيع منذ آلاف السنين. وعن تسمية هذا العيد، يقول شعبان: “يمكن إرجاع كلمة شم إلى الكلمة المصرية القديمة “شمو” وهو فصل الحصاد الذي يوافق فترة الربيع ويقع بين أوائل مايو وأوائل سبتمبر”.

ويتفق الباحث عصام ستاتي في كتابه “شم النسيم: أساطير وتاريخ وعادات وطقوس” مع ما ذكره شعبان. ويضيف كذلك أنّ تسمية “شمو” shemo الهيروغليفية تُطلق على أحد فصول السنة المصرية القديمة وتعني فصل الحصاد. وتغير هذا الاسم من “شمو” إلى “شم” خاصة في العصر القبطي، ثم أُضيفت إليه كلمة النسيم.

ووفقاً لشعبان، فقد جرت العادة على أن يتم جمع محاصيل الحبوب أثناء هذا الموسم. ويضيف: “احتفل المصريون بعيد شم النسيم لأول مرة خلال العصر المصري القديم، حوالي 2700 قبل الميلاد. وهم استمرّوا في الاحتفال به خلال العصر البطلمي والعصر الروماني والعصور الوسطى وحتى يومنا هذا”.

ويشير شعبان إلى وجود عدّة أعياد شبيهة بعيد شم النسيم. ومن هذه الأعياد عيد النوروز الفارسي والكردي، المتعلق أيضاً بالاعتدال الربيعي. وتتضمن القائمة أيضاً عيد المعبود الكنعاني أدونيس، ورأس السنة البابلية.

وجرت العادة على ربط شم النسيم بعيد الفصح للمسيحيين الشرقيين فيبدأ أسبوع الآلام بأحد السعف؛ وهو يوم الأحد الذي يسبق أحد الفصح. ويتلوه خميس العهد أو الصعود، ويشير إلى العشاء الأخير للمسيح واعتقاله وسجنه. وتأتي بعد ذلك الجمعة الحزينة، وهي السابقة لعيد الفصح وهو الأحد الذي يسبق شم النسيم.

الاحتفال

يذهب ستاتي إلى أنّ القدماء اختاروا هذا اليوم لأنهم تعوّدوا ربط أعيادهم بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة. وحُدِّد موعد العيد بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل بالنهار. وكانوا يحددون ذلك اليوم والاحتفال بإعلانه في ليلة الرؤية عند الهرم الأكبر التي يصفونها: “عندما يجلس الإله على عرشه فوق قمة الهرم”. ويظهر قرص الشمس كأنّه يجلس فوق قمة الهرم، ويقسم ضوءها وظلالها واجهة الهرم إلى شطرين، مما يربط العيد بالشمس المشرقة أيضاً.

ويتحدث شعبان لفنك عن مظاهر الاحتفال بهذا العيد قديماً. وفي هذا السياق، يقول: “كان المصريون يحتفلون بهذا العيد من خلال تبادل الورود والتجمعات وإقامة الولائم الفاخرة. ويذكر المؤرخ الإغريقي بلوتارخ في القرن الأول الميلادي أنّ المصريين قاموا بتقديم الأسماك المملحة والخس والبصل لمعبوداتهم”.

ووفقاً لشعبان، فقد اعتاد المصريون القدماء تناول الأوز والبط في يوم احتفالهم بشم النسيم، وذلك إلى جانب السمك المجفف والمملح. ويؤكد شعبان أن السمك المجفف يرمز للبعث، في حين أن الخس يرمز للخصوبة. ومن الأطعمة التي يتناولها المصريون في هذا العيد الحمّص الأخضر. وهو يرمز، بحسب شعبان، لقدوم الربيع. أما البصل، فهو رمزٌ لإرادة الحياة والتغلب على الأمراض.

الخماسية المقدسة

شم النسيم
صورة تم التقاطها يوم 11 إبريل 2023، ويظهر فيها سمك البوري المملح المعروف بـ “الفسيخ” أثناء تحضيره من قبل بائع أحد المحلات الموجودة في بلدة النبرة بالقرب من مدينة المنصورة المصرية قبيل عيد شم النسيم. المصدر: Khaled DESOUKI / AFP.

يتناول المصريون خمسة أطعمة محدّدة أثناء الاحتفال بشمّ النسيم. وترتبط هذه الأطعمة الخمسة، كما يقول ستاتي، بخماسية الكف وأصابع اليد. وتُسمى هذه الخماسية بالخماسية المقدسة. وتتضمن هذه الأطعمة كلاً من البيض والفسيخ والبصل والخس والحمص الأخضر (الملانة).

البيض

يرتبط العيد في وجدان المصريين القدماء بأول الزمان أو بدء خلق العالم. كما توجد نظرية لهم تقول إنّ الكون بأكمله انبثق من بيضة كبيرة. وورد في برديات أون ومنف أنّ الإله خلق الأرض من صلصال شكله على هيئة بيضة، ثم نفخ فيها من روحه فانفجرت الحياة داخلها وخرج النبات وتفجر من سطحها الماء.

الفسيخ

احترم المصري القديم دورة حياة الأسماك احترامه للنيل وتقديسه. لذا، فقد درج المصريون على تجفيف السمك وحفظه بالتمليح. وظهر الفسيخ والسمك المملح ضمن أطعمة شم النسيم في عهد الأسرة الفرعونية الخامسة. ففي ذلك العهد، بدأ الاهتمام بتقديس النيل نهر الحياة. وورد أنّ الحياة في الأرض بدأت في الماء ويُعبَّر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة حيث ينبع.

البصل

ظهر البصل ضمن أطعمة شم النسيم التقليدية في أواسط الأسرة الفرعونية السادسة. وارتبط ظهوره بإحدى أساطير منف القديمة. وفي هذه الأسطورة يكون لأحد ملوك الفراعنة طفلٌ وحيد أُصيب بمرض غامض استعصى علاجه. وأدى عجز الطفل إلى منع الاحتفال لعدة سنوات. وللتخلّص من هذا الحال، استدعى الملك الكاهن الأكبر. وأمر الأخير بوضع ثمرة ناضجة من ثمار البصل تحت رأس الأمير في الفراش عند غروب الشمس بعد قراءة بعض التعاويذ عليها، ثم شقها عند شروق الشمس ووضعها فوق أنفه. وطلب عدّة أمور أخرى تتعلق بالبصل واستخدامه، حتى تمت المعجزة وخرج الأمير من فراشه مشفياً. فما إن حلّ عيد شم النسيم، علّق الناس حزم البصل على أبواب بيوتهم وصار ضمن أطعمة العيد.

الخس

عُرف الخس على صور المعابد والمقابر ابتداءً من الأسرة الفرعونية الرابعة. واعتبر المصريون القدماء الخس من النباتات المقدسة الخاصة بإله التناسل “مين“. وقد قدّسه المصريون القدماء لمعرفتهم بمنافعه ويربطونه بحالات العشق والغرام وأغاني الحب.

الحمّص

عُرف الحمّص منذ عهد الأسرة القديمة، وأطلق المصريون على “الملانة” التي يؤخذ منها الحمص تسمية “طبول الحصاد”. واعتبروا نضج الثمرة وامتلاءها إعلاناً عن ميلاد الربيع، وهو ما أُخذ منه اسم ‘الملانة” حيث كانت البنات يصنعن من حباتها عقوداً أو أساور للاحتفال بالعيد.

العيد في الفن

يقول شعبان لفنك إنه ما تزال مظاهر هذا الاحتفال حتى اليوم. ويخرج الناس إلى المتنزهات والبساتين العامة وشواطئ نهر النيل ليأكلوا الفسيخ وليقوموا بتلوين البيض وإدخال البهجة إلى قلوب الأطفال.

ويضيف: “شهد العيد تنافساتٍ فنيّة متعددة. فقد تم إصدار العديد من الأغاني المرتبطة بالربيع والتي ما تزال تشكّل قيمة في الوجدان المصري. ومن هذه الأغاني أغنية الجو ربيع لسعاد حسني وأغنية لغة الزهور المعروفة على نطاقٍ واسع بالورد جميل لكوكب الشرق أم كلثوم“.

كما شهدت حفلات العيد حرباً فنية شرسة غير معلنة بين النجمين الراحلين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. وكان يتم بثّ أغانيهما عبر الإذاعة ثم عبر التلفزيون لسنوات، وجمعت هذه الأغاني ملايين المصريين. واشتهر فريد الأطرش بأغنية “الربيع” وعبد الحليم بأغنية “هلّ الربيع الجميل“. كما لحّن وغنّى الشيخ وأستاذ الموسيقى حسن المملوك عام 1917 أغنية سمّاها “تحفة شم النسيم“. ويأتي في مطلع هذه الأغنية:

“سلامي عليك يا شم النسيم،
دا شأنك ومن يومك عظيم
وفيك الأحبة سوى مجموعين
في بحر المحبة وروض النعيم”

ويختم المملوك الأغنية بمقطع يؤكد فيه على وحدة المصريين. ويقول:

“في يومك نهيّص ونفرح كتير..
ونضحك ونلعب صغير مع كبير..
مسيحي ويهودي مع المسلمين..
في بحر المحبة وروض النعيم..
سلامي عليك يا شم النسيم”.

أما عن الدراما المصرية المرتبطة بشم النسيم، فيتحدث شعبان عن فيلم يحمل اسم “شم النسيم” من إنتاج عام ١٩٥٢. وكان هذا الفيلم من بطولة سميرة أحمد ورشدي أباظة وإخراج الإيطالي جياني فيرنوتشو. ويروي الفيلم مظاهر احتفالات شم النسيم، من خلال اسكتشات وقصص فكاهية، إذ يخرج أبطال الفيلم في نزهة يوم العيد ويتعرضون لمواقف طريفة.

كما كتب عن العيد عدة كتّاب وكاتبات من مصر والعالم العربي. ومن هؤلاء نجيب محفوظ، وأحمد خالد توفيق، ونوال السعداوي، والشاعران إبراهيم ناجي وصلاح جاهين.

أما أهالي محافظة بورسعيد، فينتظرون العيد كلّ عام ليقوموا بطقس حرق الدمية السنوي. ويتميز هذا الطقس ببعده التاريخي والسياسي. ويقوم البورسعيديون بحرق الدمية التي يطلقون عليها اسم “اللمبي” أو “اللنبي”. والحكاية أنه عندما ألقى “اللورد اللنبي” القبض على “سعد زغلول” عقب اندلاع ثورة 1919، وقرر نفيه وآخرين للخارج عن طريق ميناء بورسعيد، خرج أهل المدينة لوداعه، فمنعهم بوليس المحافظة بأوامر من المندوب السامي البريطاني اللنبي، أو كما ينطقه الأهالي “اللمبي”. وصنع الأهالي حينها دمية كبيرة من القش قريبة الشبه من اللمبي، وأحرقوها في شارع محمد عومي، معبرين عن غضبهم من الإنكليز. وفيما بعد، صار طقساً سنوياً يرتبط بعيد شم النسيم.

عيدٌ عالمي

إنّ عيد شم النسيم، وفقاً لستاتي، هو احتفالٌ جمعي يجمع كلّ المصريين، بمختلف عقائدهم وبيئاتهم وانتماءاتهم، وليس له علاقة بدينٍ من الأديان. ويضيف إنه العيد الوحيد الذي ما يزال يُمارس دون أن يلبس ثوباً عقائدياً رغم بعض المحاولات لمنع الناس من الاحتفال به.

وتمتّع العيد بصبغة عالمية وكتب عنه مستشرقون، كما يقول شعبان لفنك. ومن هؤلاء إدوارد ويليام لين في كتابه “An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians”.

ويؤكد ذلك قول النهضوي المصري سلامة موسى في كتابه “طريق المجد للشباب“: “في هذا اليوم، سننسى أحقادنا التي غرسها فينا المجتمع، وسنذكر شيئًا واحدًا، هو أننا بشر، نتحد في الفرح بالربيع، ونشم نسيمه، ويقول الناس بعضهم لبعض، مهما اختلفت مذاهبهم الدينية: هنيئًا هذا العام الجديد”.

Advertisement
Fanack Water Palestine