وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بيت السحيمي: أيقونة العمارة العثمانية في القاهرة

يمثّل بيت السحيمي رمز للتراث المعماري الغني في القاهرة، ويقدم لمحة عن النسيج الثقافي في مصر خلال العصر العثماني.

بيت السحيمي
صورة تم التقاطها يوم 23 فبراير 2022 لبيت السحيمي الموجود في البلدة الإسلامية القديمة الموجودة في العاصمة المصرية القاهرة، وهي أحد المناطق التي أدرجتها منظمة اليونيسكو على لائحتها الخاصة بالتراث العالمي. المصدر: MATTES René/ Hemis via AFP.

يوسف م. شرقاوي

بيت السحيمي البيت الوحيد المتكامل الذي يمثّل عمارة القاهرة ومصر في الحقبة العثمانية.

وبينما يحمل البيت بين جدرانه عبقاً تاريخياً عمره أربعة قرونٍ من الزمن، فإنه منارةٌ ثقافية بارزة تستضيف الكثير من الفعاليات التراثية والثقافية المتميزة.

التاريخ والموقع

يقع بيت السحيمي في حيّ الجمّالية الذي يعد أحد أقدم أحياء القاهرة القديمة. ويتواجد البيت تحديداً في حارة الدرب الأصفر التي تربط بين شارع المعز لدين الله الفاطمي وشارع الجمّالية. ويجاور هذا البيت خانقاه بيبرس الجاشنكير.

ويردّ البعض إنشاء هذا الأثر إلى الأمير قيطاس بك عام 1630 م. بيد أنّ علماء الآثار والبحوث التاريخية يرون أنّ إنشاء البيت جاء على مرحلتين. وأنشأ الشيخ عبد الوهاب الطبلاوي القسم الجنوبي من المنزل عام 1648. أما القسم الشمالي فبناه الحاج إسماعيل شلبي عام 1796. وهذا الأخير جعل من القسمين بيتاً واحداً.

وسُمي بيت السحيمي بهذا الاسم نسبة إلى الشيخ أمين السحيمي، شيخ رواق الأتراك بالجامع الأزهر، وهو آخر من سكن فيه. وظلّ البيت على حالته ملكاً لأسرة السحيمي إلى أن غادرته عام 1931.

ففي ذلك العام، تواصلت لجنة حفظ الآثار العربية التابعة للحكومة المصرية مع العائلة لتسجيل المنزل بكلّ ما يحويه كأثر إسلامي مقابل تعويض مادي كبير. وبلغ التعويض حينذاك 6 آلاف جنيه مصري (أي ما تصل قيمته في يومنا هذا حوالي 55.5 مليون دولار أمريكي).

رحلة في البيت

تأثر البيت تخطيطياً بالعمارة العثمانية التي كانت تخصص الطابق الأرضي للرجال ويسمى بـ”السلاملك” والطابق العلوي للنساء ويسمى “الحرملك”. لذا، فقد كان الطابق الأرضي من البيت مخصصاً بالكامل لاستقبال الضيوف من الرجال وليس فيه أي غرف أو قاعاتٍ أخرى.

وبحسب ما ورد في موقع وزارة الآثار المصرية، فإن البيت يجسّد أسلوب العمارة السكنية خلال العصور الوسطى.

وعلى سبيل المثال، فإنّ الشبابيك السفلية الخاصة بالواجهة الخارجية مصمّمة بحيث تكون مرتفعة. وفي نفس الوقت، فإنّ المشربيات العلوية مغشاة بالخشب الخرط.

أمّا مدخل المنزل فيؤدي إلى ممر منكسر. ويسمّى هذا الممر في العمارة الإسلامية بـ”المجاز” ووظيفته مراعاة خصوصية أهل البيت. وينتهي المجاز بفناء أو صحن البيت الذي توزعت فيه أحواض زرعت بالنباتات والأشجار.

وصحن البيت من الأركان التي يشترك فيها بيت السحيمي مع غيره من البيوت الإسلامية، إذ تنفتح غرف البيت على هذا الصحن بدلاً من الانفتاح على الخارج. ويهدف هذا النوع من التصاميم إلى صون حرمة البيت من ناحية، ولاتّقاء الرياح والغبار من ناحيةٍ أخرى.

قسم الشيخ الطبلاوي

تتواجد في هذا القسم قاعةٌ واسعة ينتظم شكلها كما ينتظم شكل أغلب قاعات البيت المتعددة. وتنقسم هذه القاعة إلى إيوانين يحصران في الوسط مساحةً منخفضة عنهما نسبياً يطلق عليها في عمارة البيوت الإسلامية “الدرقاعة“. ورُصفت الأرضية بالرخام الملون.

أما جدران القاعة فقد ازدانت بشريط أبياتٍ من قصيدة البردة الشهيرة للإمام البوصيري التي خصصها لمدح الرسول محمد (ص). أما سقف القاعة فمثله مثل باقي قاعات البيت الأخرى، مسقوفٌ بألواح وبراطيم من الخشب كُسيت كلّها برسوماتٍ وزخارف نباتية وهندسية ملونة.

واستعملت هذه القاعة كمنذرة أو “سلاملك” يجلس فيها سيد البيت ليستقبل فيها ضيوفه من الرجال ويقدم لهم الطعام فيها. وإلى جانب الحشايا الفاخرة التي وضعت في الإيوانين ليجلس عليها الرجال، فإن هناك صينية كبيرة من النحاس وضعت على حامل ليقدم عليها الطعام.

وأعلى هذه القاعة هناك المقعد وهو ركنٌ آخر كانت تتميز به عمارة البيوت الإسلامية. والمقعد يمثل القاعة الصيفية لجلوس الرجال، إذ هو مثل القاعة سوى أن له واجهةً مكشوفةً تنفتح نحو جهة الشمال لتستقبل الهواء العليل في ليالي الصيف. كما ينفتح على صحن البيت ليسرّ الناظرين بمنظر الحديقة، وسقف المقعد مزدان برسوم نباتية وهندسية أيضاً.

قسم إسماعيل شلبي

يحتوي هذا القسم في أسفله على قاعة سلاملك مشابهة لتلك الموجودة في قسم الطبلاوي. بيد أن ما يميّز قاعة إسماعيل شلبي هو أنها أكبر في المساحة وأفخم في التفاصيل المعمارية والزخرفية.

و يعلو القاعة سقفٌ مزين بالزخارف النباتية والهندسية تتوسطه قبة صغيرة بها فتحات صغيرة ليدخل منها الهواء والضوء. وتُسمى هذه القبة بـ “الشخشيخة”.

ويضمن وجود هذه الشخشيخة مع المشربية التي تنفتح على صحن البيت التجديد المستمر لهواء القاعة واحتفاظها بهواء لطيف رطب طوال الوقت.

وتجاور هذه القاعة قاعةٌ أخرى كانت مخصصة لقراءة القرآن، وهو تقليد كان متبعاً في عمارة البيوت والقصور الإسلامية الكبيرة.

ونجد في القاعة كرسياً كبيراً فيه مشغولات خشبية من الخشب الخرط. وغالباً كان مخصصاً للشيخ الذي يقوم بقراءة القرآن.

كما ينزل من سقف هذه الغرفة تنور كبير من النحاس المشغول، إذ لم تكن هناك وسيلة للإضاءة سوى هذه التنانير التي كانت تضيء بالفتيل المغموس في الزيت.

الترميم

بيت السحيمي
صورة تم التقاطها يوم 23 فبراير 2022 لبيت السحيمي الموجود في البلدة الإسلامية القديمة الموجودة في العاصمة المصرية القاهرة، وهي أحد المناطق التي أدرجتها منظمة اليونيسكو على لائحتها الخاصة بالتراث العالمي. المصدر: MATTES René/ Hemis via AFP.

في بداية التسعينيات، خضع البيت لعملية تجديدٍ شاملة نظراً لسوء حالته، إذ احتوى في عام 1993 على ‏14‏ ألف شرخاً. وتم ترميمه بمنحة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي بتكلفة عشرة ملايين جنيه. واستمرت أعمال مشروع توثيق وترميم وتنمية منطقة بيت السحيمي بين عامي 1996 و2000.

ومع انتهاء الترميم، صدر قرار بتحويل البيت إلى مركز للإبداع الفني تابع لصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة المصرية.

ومع بداية الألفية، بات البيت مركز إشعاع ثقافي وفني في منطقة الجمالية، إذ بات يفتح أبوابه لاستضافة فرق التراث الشعبي والمعارض الفنية التي تنظم داخل قاعاته.

وبحسب وزارة الثقافة، فقد قام الصندوق بفتح أبواب بيت السحيمي لاستضافة أضخم فرق التراث الشعبي الموسيقي المصرية. ومن أبرز الفرق فرقة النيل للموسيقى والغناء الشعبي التي يزيد عدد أفرادها عن 55 فناناً وكان يقودها المخرج المسرحي المعروف عبد الرحمن الشافعي.

كما استضاف مركز إبداع السحيمي مؤخراً نوعاً آخر من عروض الفنون الشعبية وهو فن الأراجوز وخيال الظل. وتقام ورش عمل لتعليم الشباب أصول هذا الفن من أجل إعداد جيل جديد قادر على مواصلة المسيرة.

السيرة الهلالية

اعتاد بيت السحيمي استضافة “الليالي الرمضانية التي جرت العادة فيها على سرد السيرة الهلالية. وتعد السيرة الهلالية إحدى أعظم حكايات التراث العربي التي جسدت نفسها وما تزال ضمن التراث اللامادي الباقي في المخيلة العربية حتى اللحظة.

وتشكل تلك السيرة ملحمة طويلة تغطي مرحلة تاريخية تمر على هجرة بني هلال، وتمتد لتشمل تغريبتهم وخروجهم من ديارهم من عالية نجد إلى تونس، وتبلغ السيرة نحو مليون بيت شعر.

وتعتبر السيرة الهلالية واحدة من أهم وأفضل ما يتغنى به الناس في صعيد مصر. ويحفظ أبناء تلك المنطقة آلاف الأبيات من هذه السيرة، وتجمعهم جلسات السمر ليلاً بالقرب من نهر النيل، أو بجوار الزراعات.

ويرددون أبياتاً من السيرة، وينصت الجميع للاستمتاع بها، خاصة من كبار السن الذين يحفظون أبياتاً عديدة.

وتحظى هذه السيرة بخصوصية وأهميّة كبيرة في الثقافة المصرية، باعتبارها جزءاً من التراث اللامادي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة وأبياتها لم توضع مكتوبة، بل يتناقلها الناس شفوياً.

وتتكون السيرة الهلالية الشعبية من أربعة أقسام كبرى. وينطوي كل قسم على عدد من القصص الفرعية.

ويسمى القسم الأول بقسم “المواليد”. ويبدأ هذا القسم من مرحلة ما قبل ميلاد أبو زيد الهلالي، البطل الرئيسي للسيرة، وغيره من الأبطال الآخرين كحسن، ودياب، وبدير. وينتهي هذا القسم عند مرحلة الاعتراف بالبطل الرئيسي وتنصيبه فارساً.

ويسمى القسم الثاني بقسم “الريادة”. والريادة رحلةٌ يرتاد فيها أبو زيد وأولاد أخته (يحيى ويونس ومرعي) الطريق نحو تونس. وتونس هنا هي بوابة بلاد المغارب (شمال إفريقيا). وبعض الرواة يقصد بتونس كل بقاع شمال أفريقيا. وخلال الرحلة، يمر أبو زيد ورفاقه بعددٍ من البلاد والقبائل.

أما القسم الثالث، فيحمل اسم “التغريبة”. ويشهد هذا القسم سرد رحلة طويلة ومتشعبة تشارك فيها قبائل هلال وجعفر ودريد ورياح وزغبة، تبدأ من نجد وتنتهي في تونس.

ويسمى القسم الرابع بـ “الأيتام”. وفيه يموت الأبطال الرئيسيون أو يقتلون، بينما يصعد جيل جديد من الأبطال. وهذه الحلقة الأخيرة تتكون من أقسام شبيهة بأقسام السيرة، فتبدأ بمواليد الأيتام وتمر برحلات وتغريبات متعددة.

جدير بالذكر أن أداء السيرة في جنوب مصر يختلف عن شمالها من حيث اللغة أي اللهجة، والوسائل الأدبية (الأنماط الشعرية والنثرية)، والأدوات الموسيقية، والأزياء، وطرائق التلقي.

الأبنودي والسيرة

بيت السحيمي
الكاتب المصري البارز أنيس منصور (يسار) متحدثاً للشاعر المصري الشهير عبد الرحمن الأبنودي (يمين) قبيل افتتاح معرض مصر للكتاب. المصدر: AMR NABIL / AFP.

في أعقاب نكسة 1967، كرّس الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي قرابة ثلاثين سنة من عمره لتقصّي السيرة الهلالية، في أفواه المنشدين والحكائين العرب. وكان هدفه رصد هذه السيرة ونقلها من الذاكرة الشفهية الآخذة في الاضمحلال، إلى اللغة المدونة والمكتوبة، حفاظاً عليها من الاندثار.

وقد تنوعت رحلة الشاعر ما بين السودان والجزائر وليبيا، بالإضافة إلى حدود تشاد والنيجر ثم إلى تونس. وكانت النتيجة أن وضع السيرة في خمسة مجلدات.

وقرّر الأبنودي أن يقدم الملحمة التراثية في إلقاء مسموع عبر الإذاعة المصرية عن طريق تسجيل شرائط متعددة يروى فيها الملحمة بصوته.

وبعد ذلك، انتقل إلى مرحلة جديدة، إذ سجّل في أحد الاستوديوهات تسعين حلقة يروي فيها السيرة الهلالية بأكملها عام 2010، وهي الحلقات التي أنتجها قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري، الذي أراد إعادة جمعها لتصبح وثيقة مصورة من ذلك التراث.

ربما اعتاد الأبنودي أن يسمع السيرة طوال أيام في بيت السحيمي، الأمر الذي جعله يسجلها فيه، ويقدم الفرق التي تنشدها وتغنّيها في البيت.

بيت السحيمي والسيرة الهلالية

ارتبطت السيرة ببيت السحيمي من خلال برنامج صندوق التنمية الثقافية في رمضان، قرابة ما يزيد عن العشر سنوات. وكانت السيرة تُقدّم هناك كل سنة، على مدى ليالي رمضان، وعبر فرق مختلفة، وأشهر الرواة في البيت السيد الضوي، الملقب بشيخ القوالين.

جدير بالذكر أنه تم افتتاح متحف “عبد الرحمن الأبنودي للسيرة الهلالية” سنة 2015، توفي الأبنودي قبل افتتاحه بأيام. ويحتوي المتحف مجلدات السيرة الهلالية كاملة ومجموعة أشرطة الكاسيت التي تحوي بداخلها السيرة الهلالية، إضافة إلى 15 مجلداً و96 شريط كاسيت ومجموعة سيديهات.

Advertisement
Fanack Water Palestine