وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

1840، العام الذي فشلت فيه مصر في أن تصبح قوةً إقليمية

مفاوضات بين نائب والي مصر محمد علي والبريطانيين
مفاوضات بين نائب والي مصر محمد علي والبريطانيين. Photo Mary Evans Picture library Ltd

في سبتمبر 1840، كتب اللورد جون رسل، وهو سياسي بريطاني تولى منصب رئيس الوزراء مرتين، رسالةً إلى زميله، اللورد هولاند. وكأن كلماته كتبت الأسبوع الماضي، ذلك أنها تصف واقع حال الأزمة السورية اليوم، إذ قال “يبدو أن الأمور في الشرق تتجه نحو أزمة وأنا على ثقة أن جميع الأطراف سترى أنه لا ينبغي السماح للباشا الكبير بإشعال النيران في العالم، أياً كان ما سيفعله في سوريا أو حتى في بلاد ما بين النهرين.”

“الباشا الكبير” الذي كان يُشير إليه هو محمد علي، حاكم مصر، الذي دخل في صراعٍ مفتوح مع القوى الأوروبية، باستثناء فرنسا التي وقفت إلى جانبه، أو كما كان يعتقد. فقد كان من شأن هذا الصراع، الذي بلغ أوجه في صيف عام 1840، أن يُقلّص بشدة من سلطات مصر، ويوطد مكانة بريطانيا في المنطقة، كما أن لنتائجة انعكاساتٍ لا يزال يشعر بها المرء حتى يومنا هذا.

بدأ الأمر برمته في أوائل القرن التاسع عشر، عندما بدأ انحدار الحكومة العثمانية، التي كانت آنذاك لا تزال وسيط السلطة الرئيسي في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ترك هذا فراغاً أمام القادة العسكريين والسياسيين الطموحين للتدخل وسد الفراغ. كان أحد هؤلاء، محمد علي، الذي كان قائداً عسكرياً عثمانياً من أصولٍ ألبانية، والذي أرسل، في عام 1801، إلى مصر، وبعدها إلى سنجقٍ شبه مستقل من الإمبراطورية العثمانية احتله نابليون بونبارت، للإطاحة بالفرنسيين.

إلا أن محمد علي كان مصراً على إتباع نهجه الخاص. ومن خلال بناء تحالفاتٍ مع القادة المحليين وملاحقته لخصومه السياسيين والعسكريين بلا رحمة، تمكن على نحوٍ تدريجي من السيطرة على مصر وتعزيز سلطته.

وخلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، قام بتحديث الدولة المصرية، كما مركز الاقتصاد وصادر مساحاتٍ كبيرة من الأراضي الزراعية. وهكذا تمكنت الدولة من تنظيم المحاصيل التي تتم زراعتها، وخاصة القطن، الذي كان محط آمالٍ بعائداتٍ نقدية ضخمة. استخدمت الإيرادات التي تم توليدها لبناء جيش قوي وبيروقراطية وطنية. فقد تم إرسال مهندسين مصريين إلى الخارج لمعرفة كيفية إنشاء وتشغيل المصانع الحديثة وفقاً للنموذج الأوروبي، وبالتالي، أنتجت الصناعة المصرية الناشئة الأدوات والآلات والأسلحة، إذ كان الجيش المصري من أكبر المستفيدين منها.

لم تتمكن الحكومة العثمانية في القسطنطينية من وقف صعود محمد علي، الذي اعتبر أن الإمبراطورية العثمانية محكوم عليها بالفشل وعزم على إنشاء مملكة وراثية مستقلة لتكون الخلف الطبيعي للعثمانيين. ومع ذلك، كان أيضاً رجل يتمتع بالحذر ولم يرغب في معاداة القوى الأوروبية، كما أراد تجنب انهيار الإمبراطورية العثمانية.

فقد أيدّ بدايةً السلطان العثماني، حيث قام بحملاتٍ عسكرية في شبه الجزيرة العربية بالنيابة عنه. وفي عام 1827، ساعد في سحق التمرد اليوناني إلا أنه عانى من خسائر بحرية ضخمة ضد أسطول حلفاء من السفن البريطانية والفرنسية والروسية التي جاءت لمساندة اليونان.

طلب من السلطان منحه سوريا (وهي لبنان وسوريا وأجزاء من فلسطين اليوم) تعويضاً عن خسائره. فقد كانت سوريا ذات جاذبية، حيث كانت بمثابة حاجزٍ طبيعي بين الأراضي التي تسيطر عليها مصر والإمبراطورية العثمانية. كما شكلت أيضاً طرقاً تجاريةً هامة وسوقاً داخلية للبضائع المصرية.

رفض السلطان طلب محمد علي، إلا أنه لم يكن بالشخص الذي يقبل الرفض، وعليه، غزا محمد علي سوريا في أكتوبر 1831. ومن هناك، سار الجيش المصري إلى الأناضول وهزم الجيش العثماني في ديسمبر 1832 في معركة قونية. وبموجب معاهدة سلامٍ لاحقة، بوساطة من القوى الأوروبية القلقة، أصبحت سوريا الآن تحت الحكم المصري.

وبعد بضع سنوات، حاول العثمانيون استعادة سوريا، إلا أنهم عانوا مرةً أخرى من هزيمةٍ عسكرية مدمرة في معركة نصيبين. استمرت الأعمال القتالية، وفي يونيو 1840، انشقت البحرية العثمانية بأكملها مع مصر. فقد أصبح محمد علي يسيطر الآن على أجزاء كبيرة من مصر والسودان وشبه الجزيرة العربية وفلسطين وسوريا ولبنان، ويبدو أن مصر كانت متجهة إلى تولي زمام السلطة الإقليمية.

وإزاء القلق من تأثير إنهيار العثمانيين على أوروبا، تبلورت اللحظة التي قررت فيها القوى الأوروبية التدخل. واعتبر اللورد بالمرستون، الذي كان مسؤولاً عن السياسة الخارجية البريطانية، محمد علي “طاغيةً عظيم ومعتدي تسبب بشقاء شعبٍ كما لم يسبق من قبل.” والأهم من ذلك، حرصت بريطانيا على عدم وجود سلطةٍ إقليمية جديدة تستولي على الأراضي والطرق البحرية التي تقع بينها وبين مستعمراتها في الشرق الأقصى، سيما الهند.

وفي 15 يوليو 1840، وقعت بريطانيا العظمى والنمسا وبروسيا وروسيا على معاهدة لندن. منح ذلك محمد علي وذريته سيطرةً دائمةً على مصر إذا ما سُحب قواته من جميع المناطق المحتلة في سوريا وعدن والمدن المقدسة في الحجاز وجزيرة كريت واتفق على عدم الإنشقاق عن الإمبراطورية العثمانية. كما كان عليه أيضاً إعادة الأسطول العثماني المنشق.

وبدعمٍ من فرنسا، رفض محمد علي الامتثال لمطالب المعاهدة. ولعدة أسابيع في صيف عام 1840، كانت هناك مخاوف من اندلاع حربٍ بين بريطانيا وفرنسا حول هذه المسألة. لكن الملك الفرنسي، الذي كان معارضاً قوياً للحرب، تدخل، وفي خريف ذلك العام، وجد علي نفسه بمواجهة القوى الأوروبية بمفرده في حملةٍ عسكرية قصيرة اتسمت بالوحشية مما تركه مهزوماً أشد هزيمة.

وفي نوفمبر 1840، أجبر على القبول بشروط المعاهدة. فقد تحطمت أحلامه ببناء إمبراطورية لتكون خلفاً للإمبراطورية العثمانية. ويمكن للمرء أن يتصور ما سيكون عليه حال الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية إذا ما نجح محمد علي، بكل ما يتمتع به من دهاءٍ وفطنةٍ وبصيرة، بالضرب بيدٍ من حديد كما كان عليه حاله في بداية ذلك العام.

Advertisement
Fanack Water Palestine