وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مخيّم جنين: التاريخ والمعارك والحقيقة

اشتهر مخيم جنين تاريخياً بدوره في تأسيس أولى مجموعات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

مخيم جنين
صورة تم التقاطها يوم 5 يوليو 2023 لامرأة تمشي بالقرب من لوحة جدارية في أعقاب العملية العسكرية التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين بالضفة الغربية. المصدر: RONALDO SCHEMIDT/ AFP.

يوسف م. شرقاوي

المقدمة

يحظى مخيم جنين بخصوصية تاريخية في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعلى امتداد العقدين الماضيين، شنّت إسرائيل العديد من الاعتداءات على المخيّم ذي الكثافة السكانية العالية، ما أدى إلى سقوط الكثير من الشهداء الفلسطينيين وتدمير المئات من البيوت.

وشهدت الآونة الأخيرة شنّ القوات الإسرائيلية عدواناً جديداً على مخيم جنين. وأطلقت بعض الصحف على ما حدث في جنين ومخيمها منذ 19 يونيو 2023 حتى انسحاب القوات الإسرائيلية بالمجزرة. وقارنت المواقع والصحف العالمية والعربية الاعتداءاتِ الإسرائيليةَ الأخيرة على مخيم جنين بتلك التي شنتها إسرائيل على المخيم في عام 2002 خلال الانتفاضة الثانية.

وبطبيعة الحال، فإن الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة تقودنا للتساؤل حول الأسباب التاريخية والسياسية وحتى الثقافية التي تجعل مخيّم جنين هدفاً دائماً لإسرائيل.

التاريخ

لجنين، قبل وجود المخيّم، إرثٌ تاريخيّ يمتدّ على مدى مئات السنوات. وتعتبر المدينة من أبرز معاقل نضال الفلسطينيين ضد مختلف الغزاة. ففي عام 1799، أحرق سكّان المدينة الواقعة عند سفح تلال جبل النار بساتين زيتونهم لإيقاف القوات الفرنسية الزاحفة بقيادة نابليون بونابرت تجاه المدينة. وبعد انتصار الفرنسيين، أمر نابليون جنوده بحرق المدينة ونهبها.

وتروي المراجع أنّ أوّل مقاومة مسلحة تمّ تنظيمها ضد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين كانت في جنين. ففي عام 1935، وجد الشيخ عز الدين القسام في المدينة حاضنةً شعبيةً من الفلاحين المؤمنين بالثورة ضد الإنكليز. واتخذ القسام قاعدته الأخيرة في أحراش يعبد التي تقع في موقعٍ غير بعيد عن الموقع الحالي لمخيم جنين.

وتخلّصت جنين أيضاً من الاحتلال الإسرائيلي القصير الذي طالها في نكبة 1948، وآلت إلى حكم الإدارة الأردنية عام 1949.

أمّا مخيّم جنين، فقد تأسس عام 1953 ضمن حدود بلدية جنين. وبصورة مماثلة لباقي المخيمات في الضفة الغربية، فقد بني مخيم جنين فوق أراضٍ استأجرتها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” من الحكومة الأردنية.

ويعد مخيم جنين ثاني أكبر مخيم في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة ويسكنه ما يقارب 27 ألفاً. وبحسب الأونروا، فإن المخيم يقع فوق مساحة من الأرض تبلغ 0.42 كيلومتراً مربعاً. وينحدر أصل سكان المخيم من منطقة الكرمل في حيفا وجبال الكرمل. ولا يزال أهل المخيّم يحافظون على روابطهم العائلية بأقاربهم داخل الخط الأخضر (الأراضي المحتلة عام 48). ويعود السبب في ديمومة هذه الصلة قرب المخيم من القرى الأصلية لسكان المخيّم.

وظلّ مخيم جنين حاضناً للمقاومة في السبعينات والثمانينات. ولم يكن المخيم بعيداً عن نشأة مجموعات المقاومة الأولى في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لا سيما أنّ الألوية الأولى لهذه المجموعات تشكلت في المخيم، وشكّل أحد روافدها الأساسية. وفي منتصف التسعينيات، انتقل المخيم لسيطرة السلطة الفلسطينية، وعانى اقتحامات ومجازر متكررة، أبرزها اقتحام عام 2002، بحسب الأونروا.

وأطلق الجيش الإسرائيلي في مارس 2002 عملية عسكرية واسعة حملت اسم “الدرع الواقي“، رداً على الانتفاضة الفلسطينية الثانية. واستهدف الاحتلال عبر تلك العملية ست مدن رئيسية في الضفة الغربية، فضلاً عن بعض البلدات والمخيمات المجاورة لتلك المدن والتي كانت تقع بصورة مبدئية تحت سيطرة السلطة الفلسطينية. واجتاح الجيش الإسرائيلي في إطار العملية مخيم جنين ما بين 3 و18 أبريل 2002. وجاء الاقتحام بمشاركة مروحيات ودبابات وجرافات. ودُمِّر على أثر هذا الاجتياح القسم الأكبر من مساكن المخيم والبنى التحتية فيه.

واعتمد الاحتلال في مخيم جنين سياسة “كي الوعي“، إذ بادرت منظومته الأمنية والعسكرية إلى سياسة اغتيالات بحق النشطاء الفلسطينيين في المخيم، تحت مسمى “التصفية المركزة”. وتوسعت هذه السياسة، وفقاً لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، عبر الاجتياحات المتكررة للمخيم، سعياً إلى تعميم التدمير ليطال شريحة أوسع من الأهالي.

أثناء اجتياح المخيم، عمل جيش الاحتلال على إعادة تشكيله بواسطة التدمير، باعتبار أنّ تشابكه العمراني الذي يعيق الاقتحامات، والذي يخلق مساحة للسكان من أجل التفاعل سياسياً واجتماعياً، هي عناصر تهديد للاحتلال. ما جعل قوات الاحتلال تدمر 455 منزلاً تدميراً كاملاً، و800 منزلاً بصورة جزئية.

وحدثت محاولات لإعادة الإعمار بعد التدمير، إلا أنّ “الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة والعديد من حالات حظر التجول المتكررة والإغلاقات الإسرائيلية” حالت دون ذلك، وفقاً للأونروا.

بعد زيارته لجنين ومخيمها عام 2017، كتب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه مقالاً عن المخيمّ ورد فيه التالي:

“هناك فصلٌ واضح بين مدينة جنين والمخيم؛ فأنت تدرك اللحظة التي غادرت فيها المدينة ودخلت هذا المخيم الضخم الذي تم بناؤه على منحدر تل شديد الانحدار إلى الغرب من المدينة. كما إنه من السهل جداً معرفة أي من المنازل في المخيم تم تدميرها خلال مذبحة سنة 2002. إذا صعدت إلى قمة التل، يمكنك أن ترى موقع وجود الدبابات الإسرائيلية التي أمطرت بنيرانها المخيم الأعزل، ما تسبب في الخراب والموت”.

ويضيف بابه في المقال:

“كما إن هناك شيئاً آخر تلاحظه عندما تكون على التل، إذ يمكنك أن ترى المنطقة بأكملها التي تمتد من جنين في شمال الضفة الغربية إلى البحر الأبيض المتوسط. ويمكنك أن ترى عبر مرج بن عامر – المنطقة الخصبة المعروفة أيضاً باسم وادي جزريل – مدينة حيفا على الساحل. إن القرى والبلدات التي كانت موجودة قبل سنة 1948 تم تجريفها خلال النكبة – التطهير العرقي لفلسطين من قبل الميليشيات الصهيونية. وتم نقل العديد من الأشخاص الذين يعيشون هناك إلى هذه المنطقة، بحيث بات في وسعهم أن يروا من التل كيف تحوّلت منازلهم وحقولهم إلى مستوطنات يهودية و غابات للصندوق القومي اليهودي”.

الثقافة

يتمتع مخيم جنين بمكانةٍ بارزة في المشهد الثقافي الفلسطيني. وعلى الرغم من الاقتحامات المتكررة للمخيم، إلا أنّ الفعاليات لا تزال تنشط فيه، كما يصدّر أعمالاً ثقافية تواكب اليوميات الفلسطينية.

وبحسب الشاعر الفلسطيني فارس سباعنة، فإن الإنتاج الثقافي واكب حالة مخيم جنين، لكن هذا الإنتاج كان فردي الطابع وليس حالة ثقافية جماعية.

على الطرف الآخر، يحتلّ مسرح الحرية المشهد الثقافي لمخيم جنين، ويعمل على عكس صورة المخيم بكلّ ما فيه. وقدم مسرح الحرية منذ تأسيسه عام 2006 على يد زكريا الزبيدي وجوليانو خميس 40 عملاً مسرحياً عرضت في العديد من الدول بينها الولايات المتحدة ودول أوروبية.

وبحسب مصطفى شتا، مدير مسرح الحرية، فإن الهدف الأساسي من إنشاء هذا المسرح كان خلق علاقة بين الثقافة والمقاومة. ويقول شتا في هذا السياق: “يعد مسرح الحرية واحداً من أهم المسارح في فلسطين والمنطقة، ويقصده الأجانب من مختلف دول العالم. ونعتمد على الرواية المحلية المبنية على الأحداث على الأرض، خاصة أن المسرح موجود في قلب المخيم، فإنتاجنا يواكب الحالة العامة ويوثق لها”.

السياسة

يحتل مخيم جنين المواقع الإخبارية كل سنة تقريباً، بسبب الاقتحامات والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ما يؤكد أنه يشكل عائقاً ومشكلة للاحتلال، الذي يسميه بـ “عش الدبابير“.

وتؤكد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة أنّ مخيم جنين بالنسبة لإسرائيل إشكالية عصية على الحل، ولا تريده أن يتحول إلى حالة عامة في فلسطين.

ومنذ بداية عام 2023، شنت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن خمسين اعتداءً على المخيم. وترد إسرائيل اعتداءاتها إلى حجج مماثلة لوجود المسلحين في المخيّم وبكونه “مركزاً للتخطيط والتحضير لهجمات المتشددين” فضلاً عن كونه “ملاذاً آمناً للمقاتلين الذين تمولهم حماس أو حركة الجهاد الإسلامي المدعومة من إيران“.

في المقابل، يصف الكاتب عدنان الصبّاح مخيم جنين بـ “مخيم الحقيقة لجميع اللاجئين الفلسطينيين“. ويعيد الصبّاح التسمية إلى عدّة عوامل. ويكمن العامل الأول في أن أصول لاجئي المخيم تعود إلى قرى ومناطق قريبة من الحدود الفاصلة مع إسرائيل.

وبحسب الصبّاح، فإن أبناء المخيم يستطيعون رؤية قراهم الأصلية بمجرد النظر إليها من أعلى المخيم. أما العامل الثاني فيكمن في الوضع الاجتماعي والاقتصادي الكارثي الذي يعيشه لاجئو المخيّم. وبالمقارنة مع المناطق الأخرى الموجودة في الضفة الغربية، فإن أهالي المخيم لا يعيشون على أمل العودة للمناطق التي ينحدرون منها فحسب، بل على أمل الخلاص من الظروف العصيبة التي تكدّر عليهم حياتهم من الجوانب الإنسانية والاقتصادية والثقافية.

من جهة أخرى، فإنّ وحدة الفصائل في المخيم تحيّر الجانب الإسرائيلي، ووصل الأمر بيائير فلاي، قائد لواء جولاني، لأن يقول إن منسبي هذه الفصائل “ينتمون إلى المخيم فحسب”. كلّ ذلك، جعل المخيم من أولويات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لإفراغه من حالته النشطة المستمرة التي تُبقي الاحتلال في قلق من تعميمها على باقي المخيمات والمناطق الفلسطينية.

ويُضاف إلى العوامل التي تزيد من تقود إلى تكرار الاعتداءات الإسرائيلية على المخيم إلى ضعف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ويبدو أنّ المخيم غير مخترق أمنياً، لأنّ السلطة الفلسطينية لا تستطيع أن تمدّ الاحتلال بمعلومات عنه.

مع ذلك، فإنّ المواجهات التي تحدث مع السلطة الفلسطينية داخل المخيم كثيرة، إذ يحمّل أهالي المخيم السلطة مسؤولية اعتقال وتصفية عدد من أبناء المخيم.

وأعدَّ كلٌّ من جدعون ليفي وأليكس ليباك تقريراً لصحيفة هآرتس في إبريل 2023 بعد دخولهما لمخيم جنين خلسةً. وقال الصحفيان الإسرائيليان في مقالهما إنّ المخيم “يعيش أصعب أوقاته وأعنفها منذ الانتفاضة الثانية، فمقبرة المخيم تعج بقبور الشهداء”.

وجاء في التقرير أيضاً: “في الشارع خلف الزاوية، تلوح صور ضخمة للصحفية شيرين أبو عاقلة. ووضعت صخرة في المكان الذي قتلت فيه أبو عاقلة برصاص جنود الجيش الإسرائيلي. هذه المقبرة التي توجد على مدخل المخيم تحكي قصص الشهداء. عندما ندخل إلى داخل المخيم، نكتشف الصورة المدهشة للحياة”.

Advertisement
Fanack Water Palestine