من المرجح أن تتواصل لعبة الاتهامات المتبادلة طالما لا يلوح في الأفق أي احتمالٍ للتوصل إلى حل. وفي خطابه الذي ألقاه في الأمم المتحدة، وجه عباس تحذيراً مقنعاً للإسرائيليين: إن الفشل في التوصل إلى حل الدولتين سيؤدي حتماً إلى ما يسميه البعض حل الدولة الواحدة: دولة ثنائية القومية على أراضي فلسطين التاريخية التي تشمل الضفة الغربية وغزة، مما سيشكل لعنة للغالبية العظمى من الإسرائيليين.
تبادلت كلٌ من إسرائيل وفلسطين عبارة “لا شريك للسلام” لبعض الوقت، حيث اتهم كل طرفٍ الآخر بعدم قبول غصن الزيتون الذي من المفترض وجوده بيد الطرف الآخر.
بيد أن نشر هذا الخطاب أولاً يعود إلى الإسرائيليين، إذ استخدمه رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل، آرييل شارون، بشكلٍ كبير أواخر عام 2000. فقد كان هدف شارون واضحاً: تشويه سمعة الزعيم الفلسطيني آنذاك ياسر عرفات، من خلال حصره بدور “الإرهابي” الرجعي.
وعلى الرغم من أنّ هذا كان دوماً الموقف الذي تبناه شارون واليمين الاسرائيلي، إلا أن توقيت الحملة ضد عرفات كان ذو مغزى. فلم يوافق اليمين الاسرائيلي قط على اتفاقات أوسلو التي تم بموجبها الاعتراف بالسلطة الفلسطينية، وسُمح لعرفات بالعودة من المنفى في إطار عمليةٍ تهدف إلى إيجاد حلٍ نهائي للصراع وإقامة الدولة الفلسطينية.
بيد أن نشر شارون لهذه العبارة جاء في وقتٍ حرج عام 2000 عندما فشلت عملية السلام- المعروفة أيضاً باسم اتفاقية كامب ديفيد الثانية- في التوصل إلى حلٍ شامل. وفي ذلك الوقت، أثارت الزيارة المثيرة للجدل لأرييل شارون للمسجد الأقصى رد فعلٍ غاضبٍ وعنيف من قِبل الفلسطينيين، الذين اعتبروا الزيارة مبرراً لمحاولة الإسرائيليين تأكيد عزمهم عدم الإنسحاب من القدس الشرقية، الخاضعة للاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1967. كان هذا الحدث شرارة اندلاع الإنتفاضة الثانية أو ما تُعرف بانتفاضة الأقصى.
رد الإسرائيليون بالقوة المفرطة، حيث أعادوا احتلال أجزاء من الضفة الغربية التي كانوا قد انسحبوا منها في وقتٍ سابق بموجب اتفاقات أوسلو. وعليه، اندلعت سلسلةٌ جديدة من العنف أسفرت عن مقتل الكثيرين من كلا الجانبين. وكما هو الحال في المواجهات السابقة واللاحقة، كان الفلسطينيون دوماً من يعانون من خسائر أكبر في الأرواح.
وأخيراً نجح شارون، الذي خلافاً للقادة الاسرائيليين الآخرين لم يوافق أبداً على لقاء، ناهيك عن مصافحة عرفات، في تدميره حرفياً، وذلك بفرض حصارٍ عليه في المجمع الرئاسي في رام الله، والسماح له بالمغادرة فقط للحصول على الرعاية الطبية العاجلة في فرنسا، التي عاد منها بعد أسابيع محملاً بالكفن.
في الواقع، كان سلف شارون، إيهود باراك، من صاغ أولاً عبارة “لا شريك للسلام” بعد عودته من كامب ديفيد الثانية وفشله في التوصل إلى اتفاق سلامٍ مع عرفات. ووسط الاتهامات المتبادلة لفشل المحادثات، ألقى بارك باللوم المباشر على عرفات ووصفه بـ”عدو السلام.” ولا يزال فشل تلك المحادثات ومن يتحمل مسؤولية فشلها موضع نزاعٍ إلى يومنا هذا.
من جهته، يستذكر الكاتب الاسرائيلي المخضرم، أوري أفنيري، تلك اللحظة، إذ قال: “عند عودته، ندد [باراك] بعرفات، وبالفلسطينيين بشكلٍ عام، بوصفهم أعداء عنيدين. ولم يقتصر الأمر فحسب بإلقاءه اللوم بفشل المحادثات على الفلسطينيين، بل أعلن أيضاً عدم “وجود شريكٍ للسلام.”
وأضاف “أصبحت هذه كلمات مصيرية، ومنذ ذلك الحين، أصبحت بديهية بين الإسرائيليين؛ ذريعةً لجميع الأفعال والأخطاء. كما سمحت لبنيامين نتنياهو وأمثاله بالوصول إلى السلطة. كانت بمثابة اللحن الجنائزي لحركة السلام الاسرائيلية، التي لم تتعافى منذ ذلك الحين.”
أدى العنف الذي أعقب ذلك إلى تسهيل الحملة الإسرائيلية لتشويه سمعة الجانب الفلسطيني، وبخاصة عندما لجأت الفصائل الفلسطينية المسلحة إلى العمليات الانتحارية التي استهدفت المدنيين الاسرائيليين. دُعمت الحملة بشكلٍ أكبر في ظل السياق العالمي في أعقاب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وحرب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش على الإرهاب. ومع كل هجومٍ فلسطيني، ربطه الاسرائيليون بالهجمات الإرهابية الأخرى في أماكن أخرى من العالم لتعزيز قضيتهم بـ”عدم وجود شريكٍ للسلام” على الجانب الفلسطيني.
ومع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2006، في أعقاب انسحاب اسرائيل أحادي الجانب في العام الذي سبقه، أشارت إسرائيل أيضاً إلى ذلك باعتباره دليلاً آخر على عدم اهتمام الفلسطينيين بالسلام.
فقد ساعد السياق العالمي والعنف الفلسطيني (كما يُفضل البعض وصفه)، إلى حدٍ ما، الإسرائيليين في جهودهم لإلقاء اللوم على الطرف الآخر في فشل محادثات السلام، ولكن إلى حدٍ ما فحسب. فلا يمكن لهذا الخطاب أن يُخفي الحقيقة الواضحة التي تُفيد بأن الفلسطينيين يرزحون بالفعل تحت الاحتلال، وبالتالي، فمن حقهم المقاومة لتحرير أنفسهم. قد تكون وسائلهم لتحقيق ذلك مثيرةً للجدل، ولكن لم يشكك أحد (باستثناء الإسرائيليين وبعض حلفائهم في واشنطن أو عواصم غربية أخرى) في شرعية هدفهم.
وعلاوةً على ذلك، ومع تقلد محمود عباس منصب الرئيس الفلسطيني الجديد عام 2005، بعد وفاة عرفات، أصبحت هذه الاستراتيجية ادعاءً فارغاً. فقد وجد عباس أيضاً، الذي يعتبره الكثيرون براغماتياً معتدلاً وملتزماً بحل سلمي للنزاع، ناقصاً بأعين الاسرائيليين. ففي بعض الأحيان يكون ضعيفاً وغير جديرٍ بالثقة، وأحياناً أخرى غير مرن (وهذا يعني بالمصطلحات الإسرائيلية، أنه غير مستعدٍ لتقديم التنازلات التي يريدها الإسرائيليون). فقد انتقد عباس باستمرار الفصائل الفلسطينية المسلحة، وخاصة تلك التابعة لحماس، على أساس أن العنف يصب في مصلحة الاسرائيليين ولم يُسفر عن أي شيءٍ يذكر لتعزيز المصالح الفلسطينية. بل على العكس من ذلك، كان له أثرٌ سلبي على الهدف الفلسطيني بإقامة الدولة.
ويختصر الكاتب الاسرائيلي جادي توب من صحيفة هآرتس الحجج الداعية إلى دعم الإدعاء الإسرائيلي بأن الفلسطينيين لا يهتمون حقاً بحلٍ تفاوضي ولا يزالون يخفون المطالب المتطرفة التي تجعل السلام مستحيلاً:
“ليس من قبيل الصدفة أن تستمر الكتب المدرسية الفلسطينية برسم خارطة فلسطين دون اسرائيل. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن تُشيد دعاية السلطة الفلسطينية بالشهداء. وليس من قبيل الصدفة أن السلطة الفلسطينية لم تكرس الموارد الهائلة التي قدمها المجتمع الدولي لبناء الدولة. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن يواصلوا الوعد بحق العودة. فالقيادة الفلسطينية لا تعترف بحقنا في دولةٍ قومية خاصة بنا في المناطق التي تعتبرها أرضها، ولا يمكن لأي مجموعةٍ من التفاصيل أن تخفي هذه الحقيقة.”
في حين ألقى الكاتب الاسرائيلي والناشط في مجال السلام جرشون باسكين، اللوم على كلا الجانبين لعدم التوصل إلى اتفاق سلام:
“لا يبدو أن هناك حتى إمكانية للتحدث عن شراكاتٍ من أجل السلام بين إسرائيل وفلسطين في هذا الوقت عندما لا يتحدث أي من الطرفين أو حتى يحاول رأب الصدع للوصول إلى تفاهمات. يشعر كلا المجتمعين بأنهما تحت الهجوم، ولم يُحرز أي تقدمٍ نحو السلام منذ سنوات. بل تؤمن غالبية الجماهير على كلا الجانبين بعدم وجود شريكٍ للسلام على الجانب الآخر.”
ويُضيف إن السبيل الوحيد للخروج من المأزق الحالي بوجود قادة مثاليين يمكنهم إلهام وقيادة شعبهم:
“تتمثل المهمة الرئيسية لأي قائد بمنح شعبه الأمن والأمل بمستقبلٍ أفضل. وحتى الآن، فشل القادة من الجانبين فشلاً ذريعاً. ولا يمكن للقادة النجاح في مهامهم وغاياتهم الرئيسية سوى من خلال إرساء شراكاتٍ متجددة.”