وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

شركس سوريا: تاريخٌ طويل وهجرات كثيرة

يعتبر شركس سوريا من الأقليات العرقية التي تركت أثراً كبيراً في المجتمع السوري ولعبت دوراً بارزاً في تاريخ سوريا.

شركس سوريا
صورة تم التقاطها في خمسينيات القرن الماضي لفتى شركسي سوري وهو يعزف على الأكورديون وخلفة فتاتين من قرية مرج السلطان. المصدر: AFP.

يوسف م. شرقاوي

يعتبر الشركس من الأقليات العرقية التي تركت أثراً كبيراً في المجتمع السوري ولعبت دوراً بارزاً في تاريخ سوريا. وكما هو معروف، فإنّ للشركس تاريخاً طويلاً ومريراً شابه الصراع مع الإمبراطورية الروسية قبل وصولهم إلى سوريا.

ومنذ وصولهم إلى سوريا، استطاع الشركس أن يندمجوا في فسيفساء المجتمع السوري، محافظين في الوقت نفسه على خصوصية هويتهم وإرثهم الفريد.

الأصول والتسمية واللغة

يقول خير الدين ماشفج، وهو صحفيٌ شركسي وخريج قسم التاريخ من جامعة دمشق، لفنك إنّ الشركس هم الشعوب الأصلية لقفقاسيا أو جبال القوقاز. وهم أحفاد الحثيين وإمبراطوريّتهم العظيمة تاريخياً. كما ينسب الشركس أنفسهم بصفةٍ عامة إلى العرق الآري، وهو ما جرت عليه عادة التنسيب لدى كلّ شعوب شمال غرب القوقاز.

ويتفق ماشفج في حديثه هذا مع كل المراجع التاريخية عن الشركس، لا سيما كتاب الباحث والمؤرخ الشركسي مرتقوه قاسم بعنوان “الشركس حضارة ومأساة“.

ويطلق الشركس على أنفسهم اسم الأديغا. وذهب بعض المفسرين إلى تفسير كلمة “أديغا” адыгэ بمعنى “الإنسان الكامل”.

أما تسمية الشركس أو الشراكسة أو الجراكسة، فجاءت من الإغريق. وجاءت أول تسمية لشعوب شمال غرب القوقاز باسم شركس (circassian) عندما قام اليونانيون القدماء بالسفر في رحلاتهم التي احتكوا فيها عبر البحر الأسود مع الشعوب الأديغية.

وتُعد اللغة الأديغية أو الشركسية بدائية الطابع وذات طبيعة وصفية شديدة ومقطعية. وتتألف اللغة الشركسية أو الأديغية من 52 حرفاً. والحرف في هذه اللغة له معنى. وتغيّر الحركات في حرفٍ واحد يغير المعنى. وفي هذا الصدد، يقول ماشفج: “على سبيل المثال، الحرف нэ _نَ يعطي معنى العين. والحرف ны _نِ يعطي معنى الأم. وحرف хь حَ يعطي معنى الشعير والكلب وفعل الأمر احصد في آنٍ معاً”.

وتتنوع لهجات اللغة الأديغية في سوريا على النحو التالي: الأبزاخ، والبجدوغ، والقبردي، والشابسوغ. ولا يعاني كبار السن من تمييز اللهجات وفقاً لماشفج. أما بالنسبة لصغار السن، فالموضوع يختلف. فصحيحٌ أنّ اللغة ما تزال قائمة في المجتمع الشركسي، لكنها في مرحلة الموت في سوريا، بسبب انفتاح الشركس على المجتمع العربي وحاجته إلى التحدث بهذه اللغة وتعلمها.

تاريخٌ قديم

شركس سوريا
رسم يعود لعام 1868 لفيرماني وتظهر فيه قبيلة شركسية أثناء انتقالها مجبرة من موطنها. المصدر: Bianchetti/Leemage Leemage via AFP.

ينقسم تاريخ الشركس في سوريا إلى قسمين اثنين. ويرتبط القسم الأول بدولة المماليك وبالتحديد حقبة المماليك البرجية “الجراكسة” بين عامي 1382 و1517. وعاش الشركس في سوريا قبل خمسة قرون من تاريخ تولّيهم مقاليد السلطة هناك. ولكن مع هزيمة سلطانهم قانصوه الغوري وموته في معركة مرج دابق ضد العثمانيين في عام 1516، اختفى الجيش المملوكي والشركس من مسرح الأحداث في سوريا.

وتوجد الكثير من الأبنية والأضرحة وأسماء المناطق في مدينة دمشق وغيرها ترتبط بشراكس العصر المملوكي. ويُعد أشهرها على الإطلاق، منطقة الصالحية – الشركسية (وهكذا تُسمّى بالقيد العقاري بحسب ما قاله لنا ماشفج). كذلك نذكر المدرسة الجهاركسية (الجركسية) التي يتم نسبها للأمير جهاركس الصلاحي.

أما القسم الثاني من تاريخ الشركس في سوريا، فيرتبط بتاريخ الحرب الشركسية الروسية التي وقعت بين عامي 1763 و1864. وأدّت تلك الحرب إلى تهجير سكان منطقة شمال غرب القوقاز (شركيسيا) إلى دول الشتات، متمثلة بتركيا وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين والبلقان.

ويذكر ماشفج أنّ أول الموجات النازحة وصلت إلى سوريا عام 1872 بعد قضاء عدة سنوات إما في شمال تركيا أو البلقان. ويضيف أنّ موانئ بيروت وحيفا واللاذقية استقبلت المهاجرين الشركس ثمّ تم نقلهم إلى الداخل السوري. وبعد ذلك، تم وضع الشركس، حسب سياسة عثمانية، على خطٍّ فاصل بين مناطق البادية السورية والداخل السوري (المعمورة). وسُمّي هذا اصطلاحاً بشريط النالمس الشركسي. ويمتد من منبج في حلب وينتهي عند كفركما في فلسطين المحتلة، وعمان في الأردن.

ويحظى هذا الجزء من تاريخ الشركس بحضورٍ قوي وفاعل في تاريخ سوريا المعاصر، وقد كُتبَت كثيرٌ من الأبحاث عنه، وعن السياسة العثمانية في توطين الشركس للاستفادة من قوتهم البشرية واستغلال خبراتهم وخصائصهم القتالية.

الحرب الشركسية الروسية والهجرات

على امتداد قرنٍ من الزمان، عانى الشركس من أهوال الحروب التي وقعت بينهم وبين الإمبراطورية الروسية. وكما هو معروف، فإن هذه الحروب قادت في نهاية المطاف إلى تهجير طيفٍ واسع من الشركس من موطنهم الأصلي في شمال القوقاز.

ويرجع ماشفج إلى ستينيات القرن الثامن عشر. ففي تلك المرحلة، اشتد الصراع العثماني الروسي. وبدأ الطموح القيصري الروسي ينمو تجاه منطقة القوقاز أملاً بالوصول إلى المياه الدافئة. وبحسب ماشفج، فقد كان لإسلام الشراكسة وتمايزهم العرقي عن الروس أثرٌ آخر في نمو العداء بين الشعبين.

ولذا السبب، اندلعت الحرب الشركسية الروسية لما يزيد عن القرن من الزمان. وفُقدت بعض العائلات الشركسية بالكامل بسبب هذه الحرب، أو أثناء رحلة النزوح التي تخللتها أمراض وأوبئة وصراعات مع السكان الأصليين.

ووصلت أول دفعة من المهاجرين الشركس إلى سوريا من البلقان ومنطقة ميناء طرابزون شمال تركيا على البحر الأسود إلى ميناء اللاذقية عام 1872. وتتابع خلال نفس العام وصول العديد من الموجات المهاجرة إلى موانئ بيروت واللاذقية وأنطاكية. واستقر معظم المهاجرين الشركس في الجولان.

وتتابعت موجات الهجرة بعد ذلك، فكانت ثاني الموجات الكبيرة عام 1880. وبحسب ماشفج، فقد استقر معظم هؤلاء في فلسطين والأردن ومناطق خناصر ومنبج وتلعمري وعين النسر ومرج السلطان في سوريا.

أما ثالث الموجات فكانت عام 1905. وتمّ توزيع المهاجرين على القرى الشركسية المذكورة وعلى بعض أحياء مدن دمشق وحلب واللاذقية وأنطاكية وحمص وجسر الشغور.

وبطبيعة الحال، فإنّ حالة الاضطهاد التي مارستها السلطات القيصرية الروسية على الشركس هي التي دفعتهم إلى هذه الهجرات، سيّما وأن الروس اتّبعوا سياسة الترويس والتنصير.

الاندماج في سوريا

يتركز تواجد الشركس في العاصمة دمشق بأحياء ركن الدين والمهاجرين وضاحية الأسد. وتجدر الإشارة إلى وجود المقر الرئيسي لجمعية المقاصد الخيرية الشركسية في حي ركن الدين. أما في محافظة حمص، فيتواجد الشركس في قرى تلعمري وعين النسر وتليل. ويتوزع عددٌ من العائلات في بعض أحياء مدينتي حلب واللاذقية، ومنطقة جسر الشغور.

ومع ذلك، يُعد الشركس في سوريا أصغر أقلية عرقية وفقاً لماشفج، إذ هاجر سكان مرج السلطان في ريف دمشق وغيرها إلى خارج سوريا أو عادوا إلى الوطن الأم في القوقاز بسبب الأزمة السورية.

ويقول ماشفج: “كان لنكسة حزيران 1967 واحتلال الجولان السوري أثرٌ كبير على نزوح الشركس مرة أخرى إلى الداخل السوري. ويتواجد في الجولان السوري أكبر تجمع شركسي في سوريا، لا سيما في مدينة القنيطرة، إضافة إلى اثنتي عشر قرية شركسية في ريفها”.

أما على صعيد الاندماج مع المجتمع السوري، فيمكننا الحديث عن عدة شخصيات شركسية كان له حضورٌ لافت. وتشمل القائمة المقدم جواد أنزور، وهو بطل معركة تل العزيزيات التي وقعت عام 1948 قبل وقوع نكبة فلسطين. كما كان أول رئيس لدولة سوريا في عهد الانتداب الفرنسي شركسياً وهو الداماد أحمد نامي بك.

وبحسب ماشفج، فإنّ الاندماج الشركسي مقسومٌ لقسمين، إذ انصهر بعض الشركس في المجتمع السوري من العهد المملوكي، مثل آل الغوري في حلب وآل جركس في دمشق وآل أباظة في السويداء. أما القسم الآخر، فيضم المهاجرين الجدد الذين قدموا إلى سوريا في سبعينيات القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، وما يزال يعيش أحفادهم وأبناء أحفادهم في سوريا.

الأديغا خابزة

يتميز الشركس بنظام عادات وتقاليد صارم اسمه “أديغا خابزة” (адыгахабзэ). ويعد هذا النظام بمثابة دستور أخلاقي غير مكتوب، لكنه معروف للجميع. وتذكر المراجع أنّ الحكيم الشركسي المشهور قازان يقوة جباغة، الذي عاصر القيصر بطرس الأكبر، عدَّل هذا الدستور الأخلاقي، ووضع جميع قواعد المجتمع وآدابه وأساليب التربية البيتية بما يتّفق والقيم الأخلاقية الإسلامية.

ووفقاً للصحفي الشركسي السوري نوار كتاو، فإنّ الأديغا خابزة: “تعني منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية الشركسية المتعارف عليها، التي يتعلمها الشاب الأديغي خلال حياته ويتعلمها من الأفراد الأكبر منه. ومن المعيب أن يقوم بأي عمل مخالف لها.

من الناحية الاجتماعية، تنظّم حياة الإنسان منذ اليوم الأول لولادته، وتضع ترتيباً له بدءاً من ملابسه الأولى وطرائق تربيته وتعليمه وتدريبه، ثم تتابعه حين يكبر. كما تنظّم أمور الزّواج والحياة العائلية حتى يهرم المرء ويموت، فهي بذلك تصل إلى العلاقات الإنسانية الحميمة لتنظيمها وضبطها وفق قواعد لا تجد إلا الاحترام”.

وهذا أيضاً ما يذهب إليه كتاب “لمحات عن العادات الشركسية – الأديغا خابزة” لرايا عادل بي مامخيغ.

المجتمع الشركسي

يقول ماشفج لفنك إنّ الشركس في سوريا مسلمون من أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، لكن البعض يرى فيهم اختلافاً عن غيرهم من الأعراق في سوريا. وقد يعود ذلك لوجود الرقص الفلكلوري الشركسي في أعراسهم والعزف على آلة الأكورديون وطريقتهم في الخطيفة أثناء الزواج.

وبحسب ماشفج، فإن العائلة الشركسية قاسيةٌ في تربيتها. ويتربى الشبان الشركس على تقديس القوة والصدق والوفاء بالعهد والإخلاص. أما الشابات فيتربين على إتقان أمور المنزل وصيانة النفس والعائلة. ويقدس الشركسي عائلته ويحاول التمثل بروح الفروسية الشركسية.

وعند الشركس أفضل الجياد هو الجواد الشركسي وأفضل الآباء هو الأب الشركسي رغم قساوته. وحتى الأم الشركسية هي أم قاسية على أبنائها حتى يطبقوا الأديغا خابزة.

Advertisement
Fanack Water Palestine