مرشديّو سوريا طوّروا طقوسًا فريدة أضيفت إلى مساحة التنوع الديني في المجتمع السوري على الرغم من توجيه الاتهامات لهم بالهرطقة والخروج عن الإسلام.
يوسف م. شرقاوي
قد تكون الطائفة المرشدية أحدث معتقد ديني ظهر في سوريا. ففي العقد الثاني من القرن العشرين، ظهرت هذه الطائفة في جبال الساحل السوري، وبالتحديد في القرى المتاخمة للّاذقية وحماة وحمص. ويعود تأسيس المرشدية في تلك المرحلة من تاريخ سوريا لعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية متعددة.
وبمرور السنوات، بات للمرشديّين مذهبٌ خاص وطقوس وأعياد مميزة أضيفت إلى مساحة التنوع الديني التي يعيشها المجتمع السوري. ومع ذلك، فإن المرشديّين يعانون كثيراً من توجيه الاتهامات لهم بالهرطقة والخروج عن الإسلام.
النشأة
يعرّف نور المضيء مرشد المرشدية في كتابه “لمحات حول المرشدية” على أنها حركة دينية وليست حزباً سياسياً. ويقول:
“هي منهجٌ أخلاقي طاهر بقصد اكتساب رحمة الله. وهي ليست نظاماً اجتماعياً معيناً، ولا برنامجاً اقتصادياً. وهذا المنهج الأخلاقي والمسلك النفسي والمنطق العقلي متأتٍ من وجدانية مقتبسة من مناجاة الله. فالمرشديّة فعل مناجاة وتعظيم للارتفاع إلى الحياة، وهي تعتني بطهارة السريرة، لا بقوانين الإدارة. وهي تبارك كلّ ما من شأنه تهيئة اكتمال الفرد، وإبراز جمال المجموع، وترفض كلّ ما من شأنه إعاقة كمال الفرد، وتشويه جمال المجموع. يهمنا أن يكون الفرد إنساناً عزيزاً يتمتع باستضاءةٍ فكرية وطهارة قلبية”.
وترجع بداية المرشدية إلى عام 1923، حيث أسسها سلمان المرشد أثناء فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، في منطقة الحدود الجبلية بين مدينتي اللاذقية وحماة. ودعا سلمان المرشد لإلغاء عادات كثيرة “منها تحرير الرعية من سيطرة المشايخ”.
ويحكي نور المضيء مرشد عن دعوة سلمان مؤسس الطائفة إلى المساواة عام 1923. ويذكر أنّ حكومة الانتداب سمعت بالحركة فحاربتها، “حيث نظروا إليها على أنها حركة مذهبية تحررية ولذلك فهي أخطر من سواها لما لها من قابلية الانتشار بين الناس في دولة الساحل”.
وقررت السلطات الفرنسية لما رأته من خطر في الحركة نفي صاحبها، “ثم أعادته من المنفى بعد ذلك حيث جرى إعدامه عام 1946 من قبل الحكومة المركزية في دمشق”. وبحسب حكم الإعدام الصادر بحق سلمان المرشد، فقد تمت إدانته بـ “جناية ترؤّس عصابة (..) غايتها ضبط أموال جمّ غفير من الأهلين ونهبها والإغارة عليها، وقيامه مع عصابته بصد رجال الدرك عن إدراكهم وتعقبهم بقوة السلاح”.
وفي كتاب نور المضيء، نقرأ عن سلمان المرشد:
“قام بحركة إصلاحية وعمره لم يتجاوز 18 سنة. ووحد عشيرته في 12 يوليو عام 1923. وحارب الفرنسيين فسجن ثلاثة أشهر تعرض خلالها للتعذيب. وعندما خرج من السجن دعا إلى المساواة والعدالة بين الطوائف والأحزاب، فقامت السلطات الفرنسية بنفيه من اللاذقية إلى الرقة مشياً على الأقدام لمدة ثلاث سنوات من 1925 وحتى 1928. ثم أعيد من المنفى ليوضع تحت الإقامة الجبرية لمدة ست سنوات، لكونه عارض بشدة البعثات التبشيرية بين المسلمين، والتي تخفي وراءها مطامع سياسية ومصالح شخصية”.
مراحل الحركة المرشدية
يقسم عبد الله حنا تاريخ الحركة المرشدية إلى ثلاث مراحل. وتمتد المرحلة الأولى بين عامي 1923 و1946. وبحسب حنّا، فإن هذه المرحلة “هي مرحلة التأسيس والسير خلف سلمان المرشد الأب الروحي للحركة”.
أما المرحلة الثانية فتمتد عامي 1946 و1951، وهي “مرحلة ما بعد المرشد، إذ عاشت الحركة ظروفا صعبة بعد إعدام مؤسسها سنة 1946 ونفي أولاد المرشد”.
وتبدأ المرحلة الثالثة مع إعلان مجيب بن سلمان الدعوة في 25 أغسطس 1951. وعندما أنهى مجيب سنوات نفيه الثلاث، “عاد إلى منطقة الغاب ليطلق سرّاً ما يسمى وفقاً للمعتقد المرشدي الدعوة إلى “المعرفة الجديدة لله”. وهو اليوم الذي ما يزال المرشديون يحتفلون به دينياً في كل عام. ويعد هذا العيد عيد المرشديّين الديني الوحيد.
ثمّة تقسيم آخر لمراحل الحركة يورده الباحث سليمان الطعّان في بحثه “الطائفة المرشدية في سورية”.
وبحسب الطعّان، فإن المرحلة الأولى تمتد بين عامي 1923 و1925. وهذه المرحلة هي مرحلة البدايات وبزوغ نجم سلمان المرشد بوصفه شخصاً يملك قدرات استثنائية.
وتمتد المرحلة الثانية بين عامي 1925 و1932، وهي مرحلة الكمون والعمل السري.
أما المرحلة الثالثة فتمتد بين عامي 1932 و1946، وهي مرحلة انتشار الدعوة، وتحوّلها إلى حركة منظمة بقيادة المرشد.
وفي المرحلة الرابعة، خفت نجم الحركة بعد إعدام سلمان ونفي أبنائه وبعض أتباعه. وفي تلك المرحلة، ظهرت بدايات تشكّل الحركة بوصفها طائفة عبر ظهور المصطلحات الخاصة بها. وبدأ ظهور كلمة “الشعب المرشدي” التي ما يزال أفراد الطائفة يتداولونها حتى يومنا هذا.
أما المرحلة الخامسة، فشهدت تحوّل الحركة إلى طائفة بالمعنى الديني، بعد ظهور مجيب المرشد وإعلانه الدعوة في 1951. واستمر التشديد والتضييق على المرشديين، حتى وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وسماحه لهم بممارسة طقوسهم.
ويتراوح عدد المرشديّين، بحسب رصيف 22، بين “ثلاثمائة ألف ونصف مليون”. ويعيش هؤلاء في محافظات اللاذقية، وحمص، ومنطقة الغاب في حماة، وفي دمشق وريفها. وهناك أعداد محدودة في الخارج من السوريين المهاجرين.
اتهاماتٌ بالهرطقة
تفتقر المكتبة العربية لدراساتٍ تتناول نشأة هذه الطائفة وما مرّت به من مراحل. ويرى الطعّان أنّ الحديث عن الطائفة المرشدية “يقع ضمن نطاق المسكوت عنه في الخطاب الاجتماعي والسياسي المعاصر”.
ويقول: “كانت كلمة المرشدية مرادفة للهرطقة أو الزندقة في مرحلة الحكم الوطني حتى عام 1963. وحين تولى حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا، جرى تعميم السكوت عن تناول الشأن الطائفي، وخرج البحث فيه من الدائرة الأكاديمية تماماً. يضاف إلى ذلك ما تختزنه الذاكرة الشعبية من عدم تمييز بين المرشدية والعلوية وباقي الطوائف الأخرى التي ينظر إليها من قبل المسلمين السنّة على أنها طوائف خارجة عن الملّة”.
في السياق نفسه، ما تزال الصعاب قائمة في وجه المؤرخين وتعوّقهم عن الوصول إلى وثائق كافية في تاريخ منطقة جبال الساحل السوري أو تاريخ بعض الحركات الدينية هناك. ويرى الكاتب محمد الربيعو أنّ هناك أسباباً سياسية وأمنية واجتماعية تحول دون الحصول على مثل هذا النوع من الوثائق. وبحسب الربيعو، فإن هذه العوامل حالت في العقود الأخيرة، ولمرات عدّة، دون “جمع تراث المنطقة الشفوي، وهو ما أزال أي إمكانية للاستفادة من هذا التراث”.
لم يكتب أتباع الطائفة ما يوضح حقيقة وضعهم أو نشوء طائفتهم، باستثناء كتاب نور المضيء المرشد “لمحات حول المرشدية“. ويرى الطعّان أن ما هو مدوّن في هذا الكتاب: “يتخذ وضعية السجال بهدف تأكيد أصالة إسلام المرشديّين وعروبتهم”، واصفاً الكتاب بأنه “يرصد سيرة زعماء المرشدية أكثر من عنايته بتوضيح طبيعة المرشدية”.
ويوجد نوعان من الدراسات حول المرشدية، الأول هو نوع الدراسات التي تصفها كحركة فلاحية ضد جور الإقطاع. ويأتي على رأس هذا النوع من الدراسات كتاب “المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية” لعبد الله حنا. ويُضاف إلى هذا الكتاب السيرة الذاتية لأحمد نهاد سياف، المعنونة “شعاع قبل الفجر“. أما النوع الثاني من الدراسات فيتناول المرشدية من وجهة نظر دينية. وبحسب الطعّان، فإن هذه الدراسات لا ترى في المرشدية إلى “طائفة مهرطقة وخارجة عن الإسلام“.
الحرية والمرأة
تقوم المرشدية على مبادئ معينة، يشير إليها الباحث السوري محمد علي عبد الجليل، بأنها “تدعو إلى التزام الأخلاق للفوز برحمة الله ورضوانه”. كما يقول: “أكثر ما يميز المرشدية هو إلغاؤها للسلطة الدينية، إذ لا يوجد كهنوت ولا مشايخ ولا تبشير ولا دعوة إلى الدين، إنما يُعطى الدين بناء على طلب المريد. وطهارة الضميرِ وصدق النية هما الأساس لدى المرشدية، فلا حاجة، عندئذ، إلى مؤسسة دينية أو سلطة كهنوتية لمراقبة الضمير، وطهارة السريرة مقدمة على الشريعة. فالشريعة مؤقتة تختلف باختلاف الزمان والمكان. والشريعة نصيحة لا أكثر، ولا يوجد إدارة ولا مدير للنصائح”.
ويضيف: “لا يدين المرشديّون أحداً ولا يكفرون أحداً، فالديان هو الله. كما لا يحقّ لأحد أن يكون وصيّاً على أحد. وجميع الأديان والمذاهب هي طرقٌ مختلفة لغاية واحدة، وفي كلّ دينٍ حقيقة ونور وإسلام، وليس هناك من دين يحيط بالله. ولهذا يجب احترام جميعِ الأديان، وخلاصة القول هي: إن المرشدية هي الدين الذي أعاد ربط الإنسان بالدين من خلال تحريره من الدين”.
وتركّز المرشدية على “الحرية الدينية الكاملة” وعلى “حرية المرأة” بشكلٍ خاص. وعلى هذا الأساس، فإنه “يحقّ للفتاة المرشدية أن تتزوج من تحب”.
ولا يوجد، كما يقول الكاتب السوري وليد بدران، “أدنى معنى للإكراه” في تعاليم المرشدية، بل “تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة، فللمرأة المرشدية الحق في التعليم الديني والدنيوي، ولها الحق في اختيار عملها وشريكها دون أي إكراه”.
الطقوس والأعياد
تغيب لدى المرشديّين اليوم أي مرجعية دينية. ويكتفون بأشخاص يُدعون “المُلقِّن”، وعملهم أن يلقّنوا الصلاة لمن أراد ممن بلغ 14 عاماً من عمره من أبناء المرشديّين.
وبحسب الباحث كريم الهاني، فإن المصلّي يقف بيدين مسبلتين ويقول: “اللهم إني نويت أن أُصلي هذا الوقت اتجاهاً نحو الذات”. ثم يقول: “قم أيها المؤمن وصلِّ وأشر بيديك للحاضر الموجود. وقم وناد وارفع اليد بآمنت وصدقت. العزة لله، والعظمة الله، والقدرة لله”.
وتنحصر كلّ طقوس المرشدية التعبديّة بالصلاة، وليس لها مكان مخصص أو وقت مخصص.
ويحتفل المرشديون بعيد “عيد الفرح بالله” يوم 25 أغسطس من كل عام. وهو يوم دعوة مجيب سلمان المرشد للمرشدية. ويستمر العيد لثلاثة أيام. وتكون التهنئة بالعيد بعبارة “هنأكم الله على الإيمان”، فيرد الآخر: “وأسعد الله حياتكم”.
وتبقى المرشدية إذن مذهباً دينياً أخلاقياً. ويُعرف المرشديّون بجملة ترد في تعاليمهم، كَونهم لم يقدموا “على أي عمل دعوي تبشيري”. وتقول الجملة في التعاليم: “ليست علينا مهمة إنقاذ العالم”.