وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

آشوريو سوريا: واقع متأزّم ومستقبل مجهول

آشوريو سوريا يواجهون تهديدًا يلوح في الأفق بالتلاشي من المشهد السوري، حيث هاجر عدد كبير إلى أوروبا وأستراليا.

آشوريو سوريا
صورة تم التقاطها يوم 1 إبريل 2022 لسوريين آشوريين وهم يرتدون الملابس التقليدية للرقص احتفالاً بمناسبة السنة الآشورية الجديد في بلدة القحطانية بمحافظة الحسكة الواقعة شمال شرق سوريا. المصدر: Delil SOULEIMAN / AFP.

علي العجيل

يعد الآشوريّون بمسمياتهم المختلفة (السريان، الكلدان، الآراميين) من أقدم الشعوب التي استوطنت المشرق، وتحديداً العراق وسوريا ولبنان والأردن. ويدلّ على قدم الوجود الآشوري في هذه المنطقة العديد من المكتشفات الأثرية الموجودة في تلك الدول والتي تحمل في تفاصيلها الإسهام الحضاري للآشوريين.

وبحسب معهد السياسات الآشورية، فإنّ عدد الآشوريين الموجودين في سوريا كان يناهز 300 ألف شخصاً قبل الأزمة السورية، علماً بأن معظم هؤلاء كان يقيم في منطقة الخابور والجزيرة السورية. وأدت الأزمة والنزاعات الدائرة في المنطقة إلى تهجير مسيحيي شمال شرقي سوريا ومنهم الآشوريين. وللمعلومية، فقد كانت نسبة الآشوريين تصل إلى حوالي ثلث مسيحيي سوريا.

وتشير تقديرات محلية آشورية غير رسمية إلى بقاء ما لا يزيد عن ألف آشوري في تلك المنطقة، علماً بأن هؤلاء يتوزعون حالياً على مدينتي القامشلي والحسكة وريفيهما.

ويعيش الآشوريون الموجودون في منطقة الجزيرة السورية وسط خليطٍ سكّاني متنوع الإثنيات والقوميات. ويشمل هذا الخليط كلاً من العرب والأكراد والأرمن والشيشان والتركمان والأيزيديين والشركس.

الأصول التاريخية

يعود الوجود السرياني الآشوري في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين للألفية الرابعة قبل الميلاد. ويردّ المؤرخون قيام الحضارة الآشورية إلى الفترة الممتدة بين القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد والقرن السابع قبل الميلاد.

وكانت هذه الحضارة قد ظهرت في بداية الأمر في دولةٍ آشورية اقتصر نطاق حكمها على مدينة آشور. وكان ذلك بين القرنين الثاني والعشرين والرابع عشر قبل الميلاد. وشهدت تلك الحقبة وقوع هذه المدينة على فترات تحت سيطرة القوى المجاورة. وعلى سبيل المثال، فقد أخضع سركون الأكدي مدينة آشور والآشوريين لحكم الإمبراطورية الأكادية.

كما سيطر حمورابي، مؤسس الإمبراطورية البابلية، على المدينة أيضاً وأبنائها. بيد أنّ الآشوريين تمكنوا من إقامة إمبراطورية لهم بين القرنين الثالث عشر والسابع قبل الميلاد. وامتدت هذه الإمبراطورية على رقعةٍ جغرافيةٍ واسعة شملت بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر.

وكان الآشوريون من أوائل الشعوب التي اعتنقت المسيحية، وكان ذلك بين القرنين الأول والثالث الميلادي. وفي القرنين الرابع والخامس للميلاد، تعرّض الآشوريون لنكسةٍ قاسية، تمثلت في الانقسامات التي شهدتها الكنيسة، وغذّاها كلٌّ من الفرس والبيزنطيين، واتخذوها ذريعة للإمعان في اضطهادهم.

وبعد دخول جيوش العرب المسلمين البلاد، أدى الآشوريون دوراً مهماً في إرساء دعائم الدولة والمساهمة في بناء حضارتها في عهد الخلافتين الأموية والعباسية. وعلى سبيل المثال، ساهم الآشوريون في تكوين الدواوين والإدارات الحكومية، فضلاً عن ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية.

وبرز في العهد الأموي بعض الآشوريين من أمثال سرجون بن منصور الذي كان مستشاراً لعدد من الخلفاء الأمويّين. أما في العهد العباسي، فقد استمر دور الآشوريين البارز في ترجمة العلوم المختلفة، وكان من رجالاتهم حنين بن إسحق، المسؤول عن بيت الحكمة، وهذا المركز كان حينذاك أحد أبرز المراكز الثقافية والعلمية في العالم العربي والإسلامي.

أما وجود الآشوريين الحديث في سوريا، فقد بدأ عقب تعرضهم بين عامي 1914 و1920 لإبادة جماعية قبيل انهيار الدولة العثمانية. وعقب وقوع مجازر سيفو، نزح الآشوريون من المدن التركية كديار بكر ومناطق شرق الأناضول إلى سوريا. وساهم الانتداب الفرنسي في تأمين استقرار من نجا من الآشوريين في سوريا.

وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، تنامى وفود الآشوريين إلى سوريا بعد ارتكاب الجيش العراقي لمذبحة سميل في عام 1933. وكان ذلك على خلفية رفض الآشوريين تسليم أسلحتهم للدولة العراقية، خوفاً من تكرار ما وقع لهم من مذابح على يد العثمانيين. وكان الآشوريون الذين وفدوا إلى سوريا حينذاك يمرون برحلة لجوءٍ ثانية، إذ سبق لهم اللجوء عقب مذابح سيفو إلى العراق وبعدها جاءوا إلى سوريا هرباً ممّا تعرضوا له من مذابح في العراق.

في عام 1957، وبعد استقرارهم في عدة مدن سوريّة موجودة بمحافظة الحسكة، أسّس الآشوريون أول حزبٍ سياسي خاص بهم تحت اسم المنظمة الآثورية الديمقراطية. وجاء تشكيل هذا الحزب بعد عامٍ واحد من تشكيل الكرد لحزبهم السياسي الأول والذي يعرف باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا.

وكما هو واضح، فقد جاء تأسيس الحزب الآشوري هذا في ظلّ تنامي الحس القومي حينذاك لدى الأقليات في سوريا. وتزامن ذلك مع بناء الآشوريين مدارس ومؤسسات ثقافية ونوادي رياضية خاصة بهم في مدينة القامشلي أولاً وبعدها في مدينة تل تمر.

تل تمر

تعتبر مدينة تل تمر الموطن الرئيسي والتجمع الأكبر للآشوريين في سوريا، ولا سيما في حوض نهر الخابور المار بأطرافها. وقد ساهم تنوع مكونات هذه المدينة بين الكرد والعرب والآشوريين في تخصيص مكانة خاصة لها في الشريحة الديمغرافية السورية.

وتقع تل تمر على الطريق الدولي (M4) الواصل بين الحدود العراقية السورية والبحر الأبيض المتوسط، مشكّلةً نقطة التقاء عدة طرق هامة في الجزيرة السورية.

ويتبع لتل تمر عدّة قرى آشورية تتموضع جميعها على ضفاف نهر الخابور. ويبلغ عدد هذه القرى 33 قرية، أكبرها قرية تل جمعة. وتتضمن القائمة أيضاً أم الكيف وتل طويل والسفح والعريشة وتل هرمز وتل نصري وتل جزيرة وقبر شامية.

ولطالما شكّلت تلك القرى ذات الأراضي العالية الخصوبة والشهيرة بزراعة القمح والعنب والتفاح، وإنتاج الألبان الفاخرة علامات فارقةً في الجزيرة السوريّة. وفرض أبناؤها حضورهم في المجتمع السوري عبر ما قدموه من إسهاماتٍ اقتصادية واجتماعية على امتداد قرونٍ من الزمن.

وكان عدد سكان تل تمر يقارب عشرة آلاف نسمة في عام 2010. وتوافد إلى تل تمر عشرات الآلاف من النازحين من مناطق حلب وحمص والرقة ودير الزور، ليرتفع العدد فيها بعد إبعاد خطر تنظيم “الدولة الإسلامية” عن أطرافها لحوالي 50000 نسمة.

وكان غالبية النازحين ممن هاجروا على مراحل من قراهم بعد دخول جبهة النصرة إلى مدينة رأس العين في أكتوبر 2012. وتنامى العدد أيضاً بعد هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” في فبراير 2015 على القرى الآشورية المحيطة بتل تمر. وما يزال أغلب هؤلاء المهجرين العرب والأكراد يعيشون في منازل ومزارع الآشوريين، على عكس الآشوريين الذين تركوا البلاد، الأمر الذي يسبب انزعاجا كبيرا للأهالي هناك بحسب بعض الآشوريين الذين قابلهم موقع فنك.

وساهم الموقع الجغرافي لتل تمر وأهمية المدينة الديمغرافية في الفترة الأخيرة في زيادة محاولات الأطراف السورية والدولية إحكام السيطرة عليها. وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ترسل عرباتها المدرعة القادمة من إقليم كردستان العراق إلى مناطق دير الزور والحسكة عبر مركز المدينة.

وللمعلومية، فقد توزعت في البلدة قواتٌ تابعة للنظام السوري والشرطة العسكرية الروسية. كما تقع بين الحين والآخر مناوشات على خطوط النار القريبة من المدينة بين المجلس العسكري السرياني التابع لقوات سوريا الديمقراطية والفصائل المعارضة التابعة لتركيا.

إرثٌ ثقافي عريق

تعتبر الثقافة الآشورية قريبة إلى حد ما من ثقافات شعوب الشرق الأوسط الأخرى، مع وجود بعض الصفات التي قد لا تتواجد بغيرها، كون الأغلبية الساحقة تتبع المسيحية وتتأثر إلى حد كبير بها. وتعد الاحتفالات المسيحية الكبرى كعيد الميلاد وعيد القيامة من أهم الأعياد الدينية لهم، إضافةً إلى عيد الصعود وعيد الصليب. كما يوجد للمؤمنين منهم صومان هامان هما الصوم الكبير وصوم نينوى أو صوم الباعوث.

ويتحدث الآشوريون تقليدياً لهجتين للّغة السريانية؛ شرقية وغربية. ولا تزال اللغة السريانية حيّة ومتداولة في سوريا، خصوصاً في محافظة الحسكة وحلب. وتنتشر اللهجة الشرقية بين أبناء كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الكلدانية، في حين تنتشر اللهجة الغربية بين أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الكاثوليكية.

وبرزَت العديد من الأسماء الآشورية، سواء من متحدثي اللهجة الشرقية أو الغربية في مجال الموسيقا أيضاً. والموسيقيون الشرقيون الآشوريون المشهورون هم جوليانا جندو، وأدور موسى، وجورج هومه، أما الغربيون فهُم حبيب موسى، وإلياس كرم وجان كارات. كما أن هناك اثنين من الملحنين الآشوريين المشهورين هما كبرئيل أسعد ونوري اسكندر.

ذاكرة مثقلة

آشوريو سوريا
صورة تم التقاطها يوم 15 نوفمبر 2019 لأعضاء من الميليشيا الآشورية حرس الخابور وهم يمرون بأنقاض كنيسة مريم العذراء التي دمرها مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية في بلدة تل نصري الواقعة بمحافظة الحسكة السورية. المصدر: Delil souleiman / AFP.

كان يوم الثالث والعشرين من فبراير 2015 يوماً مأساوياً على آشوريي سوريا، لاسيما الذين كانوا يقطنون القرى الجنوبية والغربية لتل تمر. ففي ذلك اليوم سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على 14 قرية من ضمنهم قرية الغيبش التي يفصلها عن أحياء المدينة مجرى نهر الخابور فقط. وقام التنظيم بخطف 220 آشورياً حينذاك.

ودمر التنظيم حوالي ثمانية كنائس في حوض الخابور من ضمنهم كنيسة السيدة العذراء، التي يبلغ عمرها أكثر من ثمانين عاماً، بقرية تل نصري. كما تم استهداف كنيسة القديس مار توما في قرية أم الكيف. وأطلق سراح الآشوريين المختطفين على دفعات لمدة عام، وذلك بعد واسطة مطران كنيسة المشرق الآشورية في سوريا مار أفرام أثنيل، ودفع فدية مقدارها مليارين ومئتي مليون ليرة سورية (22 مليون دولار) حينها.

يقول إلياس ع.، من سكان تل تمر، لفنك: “إن الهجمة خلفت قرى مدمرة ومهجورة، وأعداداً قليلة من السكان”. ويضيف “كانت مناطقنا ذات الثقافة والعادات والتقاليد المميزة والخضرة الدائمة وجهةً سياحية ومتنفساً للعديد من أبناء البلدات والقرى المجاورة. واليوم، لم يبق فيها سوى عائلات قليلة لا تتجاوز في بعضها ثلاث أو أربع عائلات، والسواد الذي ما زال مسيطراً رغم زوال التنظيم”.

وفي السياق نفسه، قال يوسف ب.، وهو أحد العاملين في إحدى الكنائس المتبقية في المنطقة لفنك: إنه يخدم في الكنيسة اليوم بمفرده، بعد أن كان عدد الخدام يتجاوز الخمسة في كل صلاة. وأضاف: “كان لدي الكثير من الأصدقاء، بيد أنّ كثيرين منهم هاجروا خلال السنوات الماضية. وأصبح الجميع، حتى بعد زوال التنظيم، معرضاً للخطف والسلب والقتل، خاصة ميسورو الحال”.

وقد لاحظ فنك، أثناء زيارة المدينة والقرى المحيطة بها، خلوّها من الشباب، واقتصار الوجود الآشوري فيها على النساء وكبار السن.

مستقبل غير واضح

بات المسيحيون اليوم وخصوصاً الآشوريون منهم مهددين بالزوال من النسيج السوري، ولاسيما بعد هجرة الكثير منهم لأستراليا والدول الأوروبية. ويقول لفنك غابرييل م.، وهو قيادي في إحدى المجموعات العسكرية الآشورية الموجودة في المنطقة: “لم تأت التسهيلات التي قدمتها الدول الغربية للآشوريين عن محبة، فهذه التسهيلات ما كانت إلا لتفريغ المنطقة من مكوناتها المسيحية”.

أما جميلة س.، فقالت لفنك بأن قريتها لوحدها كان يقطنها أكثر من ثلاثة آلاف نسمة وهي الآن لا يتواجد فيها سوى 20 شخصاً أغلبهم من المسنين. وتضيف جميلة: “الجميع سافر. منهم من سافر إلى أستراليا ومنهم من سافر إلى السويد أو الولايات المتحدة. حتى رجال الدين غادروا”.

وفي الوقت الراهن، فإنّ من تبقى في القرية يعيشون اعتماداً على دعم الأقارب في الخارج. وتقول جميلة في هذا الصدد: “من تبقى في القرية منا كبارٌ بالسن يقتاتون على الأموال التي تردهم من الخارج، وهم ينتظرون عودة الأبناء والأحفاد قبل أن يأتيهم الموت”.

من جانبها، تقول سارة ك.: “الحياة هنا باتت شبه مستحيلة بالنسبة للشباب بسبب جحيم الإرهاب الذي طال مناطقنا واختطف وقتل المئات منهم، فلماذا يعودون؟”، وتضيف: “كما ترى، أغلبيتنا مسنون ونسبة الشباب قليلة، والأوضاع الأمنية سيئة، ولا أنصح الذين سافروا إلى أوروبا بالعودة مجدداً”.

وعلى الرغم من عودة بعض المغتربين إلى أراضيهم ووجود الكثير من المحاولات الفردية والمجتمعية من تسهيل عودة الآخرين، ما تزال البيوت الآشورية شبه مهجورة بالكامل. ويظل السؤال الأهم، ما أن ينقشع غبار الأزمة، هل ستكون هناك أي مجتمعات مسيحية – من آشوريين أو كلدان أو سريان أو أرمن أو يونانيين – ما زالت تعيش في مدن وقرى شرق المتوسط؟

Advertisement
Fanack Water Palestine