وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الناشطون الثوريون في سوريا: من الاستهداف إلى الإقصاء

الناشطون الثوريون في سوريا
طفلٌ يشاهد فنانًا محليًا يعمل على لوحة جدارية يظهر فيها المقاتل السوري الراحل عبد الباسط الساروت في بلدة بنش في محافظة إدلب الشمالية الخاضعة لسيطرة الجهاديين، في 8 يونيو 2019. كان الساروت بمثابة حارس المرمى في وسط مدينة حمص، وأصبح أشهر مطربيها في الأغاني الاحتجاجية بعد اندلاع الانتفاضة السورية في مارس 2011. عمر الحاج قدور / AFP.

كتبه: نبيل محمد، صحفي وكاتب سوري
حرره وأشرف عليه: محمد كفينة، محرّر أوّل في فنك
إريك برينس، محرّر أوّل في فنك                           

المقدمة

بالتوازي مع انطلاق المظاهرات الشعبية ضدّ النظام السوري في مختلف المدن السورية في ربيع 2011، شرع الناشطون الثوريون ينظمّون التظاهرات في المدن والقرى. وتقوم هذه التشكيلات بتحديد الشعارات التي سيتم إطلاقها، وكتابة اللافتات التي سيتم حملها، وسوى ذلك من الأمور التنسيقية الأخرى المرتبطة بتحديد أماكن التظاهر، بالإضافة إلى نقل الصور والأخبار عن المظاهرات. واجتمعت تلك التشكيلات في ما بعد ضمن ما سُمّي بـ “لجان التنسيق المحليّة“. وضمّت تلك الأخيرة نشطاء وإعلاميين ينسّقون في ما بينهم لتنظيم التظاهرات من جهة، ونقل الأخبار وتوثيق الانتهاكات التي كان يقوم بها النظام السوري تجاه تلك المظاهرات من جهة أخرى.

وبعد انطلاق الثورة السورية، تطوّر عمل لجان التنسيق المحليّة خلال أسابيع قليلة، حيث أصبحت مختصّةً بأمورٍ متعدّدة، منها قانونية كتوثيق أسماء الضحايا وطُرُق مقتلهم، وأسماء المعتقلين، والتواصل مع المنظّمات الدولية بخصوصهم. كذلك كانت ناشطة في مجالاتٍ إنسانيةٍ وصحيةٍ وإعلاميةٍ، لتأخذ دورًا قياديًا في تنظيم العمل الثوري المدني.

مع مرور الوقت على الثورة السورية، اضطُر نشطاء المعارضة السلميين إلى العمل تحت ضغط كبير، ما عرّض حياتهم للخطر. وفي نهاية المطاف، استُبعد النشطاء، من بقوا في البلاد ومن غادروها، من أي دور في حل الأزمة السورية. في هذا المقال، يستعرض فنك لمحات عن بعض هذه الشخصيات والمصير الذي لاقوه.

حلم سوريا التعدُّديّة

كان من ميزات تلك اللجان أنّها ضمّت فئات مختلفة من المجتمع السوري، سوادها الأعظم من النشطاء الثوريين الشباب، وغالبيتهم من طلاب الجامعات والمعاهد، أو من الخرّيجين. كما أنّها لم تقتصر على قوميّة واحدة أو طائفة دينية واحدة، إنّما شملت مناطق ذات قوميّات وأديان مختلفة. وكانت الأهداف الواضحة حينها هي إسقاط الحكم الديكتاتوري والوصول إلى بلدٍ عادلٍ، الجميع فيه متساوٍ أمام القانون.

ونشطت اللجان بشكل واضح في ربيع وصيف 2011، محاولةً بشتّى الوسائل ضبط الحراك المدني ومنع تسليحه. كما واجهت الخطابات الداعية إلى تسليح المعارضة السورية، أو إلى التدخل العسكري الخارجي في سوريا. وبعد تأسيس الجيش الحرّ، قَبِلَت فيه اللجان واعترفت به على مضض، على اعتبار أن التسليح لم يكن جزءًا من برامجها نهائيًا. لكن بالمقابل، أكّدت على أهميّة ضبط سلوكه من خلال حضّ قياداته ومرجعيّاته على توقيع مدوّنة سلوك. تهدف تلك الأخيرة إلى منع الاقتتال الداخلي، ومنع الاستهداف بناءً على الطائفة أو العرق، ومنع الممارسات الإجرامية أو التعذيب، وغيرها من القواعد التي حاولت بها اللجان منع انفلات السلاح، أو اعتباره قاضيًا في أمور الناس.

وسُرعان ما اصطدمت اللجان مع فصائل متعدّدة بدأت تظهر في مختلف المناطق السوريّة، خاصّةً المتشدّدة منها. وأصبحت تلك اللجان بمثابةِ عائقٍ أمام سلطة العسكر في كثيرٍ من المناطق، ليُصبح النشطاء الثوريّون المؤسّسون والعاملون فيها أهدافًا للفصائل المتشدّدة، كما هم بالنسبة للنظام السوري، الذي اعتقل وعذّب وقتل العديد من نشطائها.

وحاولت لجان التنسيق المحليّة خلال عاميّ 2012 و2013 مواكبة العمل المعارض بشقّيه السياسي والعسكري، لكنّها طالما اصطدمت معه. ففي الشقّ العسكري، وقفت ضد أسلمة الحراك والدعوات لإنشاء نُظُم إسلامية على الأرض السورية. وفي الشق السياسي، تواصلت مع الكيانات السياسية المعارضة مثل المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وانضمّت إليهما، ثم سرعان ما انسحبت بسبب ما سمّته حينها الصراعات على المكاسب. فتلك الكيانات مقيمة في الخارج، ومرتبطة بمشاريع وسياسات دولٍ خارجية، وهو مخالفٌ كليًا لمنطق اللجان التي تحمل مشروعًا وطنيًا داخليًا، وترفض السعي وراء المكاسب والمناصب.

وعلى خلاف القوى السياسية المعارضة، استمرّ الناشطون المد نيّون الثوريّون العاملون ضمن سياق لجان التنسيق المحليّة أو خارجها، بالعمل في الداخل السوري بمواجهة عدوّين، النظام السوري من جهة، والفصائل المتشدّدة المعارضة من جهة أخرى. وأدّى ذلك إلى مستقبلٍ مظلمٍ لأولئك المعارضين المدنيين، بين من قُتِل، ومن غيّب في المعتقلات، ومن هاجر خارج البلاد.

أبرز المعارضين المدنيّين في سوريا

 

في ما يلي، ستُقدّم فَنَك لمحةً عامةً عن أبرز الشخصيات الناشطة في الأحداث الثورية داخل سوريا.

باسل شحادة

الناشطون الثوريون في سوريا
باسل شحادة. المصدر: فيس بوك

عُرِفَ باسل شحادة كواحد من أبرز المصوّرين منذ انطلاق المظاهرات المناهضة للنظام السوري. فقد عاد من مقرّ إقامته في الولايات المتحدة، التي درس فيها التصوير السينمائي، إلى مدينته حمص وسط سوريا ليوثّق يوميّات الثورة السورية، وتدريب كوادر المصوّرين والصحفيين. لكن إقامته هناك لم تطل، حيث قُتِل خلال قصف نفّذه النظام السوري مستهدفًا فيه المظاهرات في حمص بتاريخ 28/05/2012.

كانت جنازة باسل شحادة بمثابةِ مظاهرة عارمة، حيث استمدّت خصوصيّتها إلى حدّ ما من كونه مسيحيًا، مؤمنًا بضرورة التغيير في بلاده، ومعارضًا لفكرة أنّ النظام السوري يحمي الأقليات الدينية في سوريا، والتي ينتمي شحادة إلى واحدة منها.

وقبل مقتله، صوّر شحادة فيلمين وثائقيّين قصيرين عن الحراك الثوري في حمص، كما كان يخوض في أعمال سينمائية أخرى. وتنبع خصوصيّة شحادة من كونه اختار العودة إلى بلده في ظل خطورة الأوضاع فيها، وانتقى الكاميرا كسلاحٍ للدفاع عن قضية شعبه.

يحيى شربجي

الناشطون الثوريون في سوريا
يحيى شربجي

قبل انطلاق الثورة السورية، نشط يحيى شربجي من خلال فعاليات اجتماعية تدعو للمشاركة في تنظيف المدينة، وللحدّ من الفساد في دوائر الدولة، في مدينته داريا بريف العاصمة دمشق. واعتُقِل إثر هذه النشاطات في عام 2003، وسُجِن لمدّةٍ تزيدُ عن سنتين، وحُرِم من حقوقه المدنيّة بعد إطلاق سراحه.

وبعد انطلاق الثورة السورية، عُرِف شربجي من خلال مبادرة توزيع الورود وقوارير المياه على عناصر الجيش السوري، الذين أوكِلت لهم مهمّة قمع المظاهرات في داريا. وكان شربجي من أبرز دعاة الحراك السلمي، والمشاركين في الندوات التي أُقيمت في المركز الثقافي في المدينة، داعيًا إلى تحديد أهداف الحراك بالحرية والكرامة، وبناء وطن يتّسع للجميع.
اعتُقِل يحيى شربجي بتاريخ 6 سبتمبر عام 2011 بكمينٍ نصبته المخابرات الجويّة التابعة للنظام السوري، ليُعتَقَل أخوه مَعْن بعد ذلك، ثم ليُقتَلا تحت التعذيب في عام 2013.

فدوى سُلَيمان

الناشطون الثوريون في سوريا
الممثلة والناشطة السورية فدوى سُليمان تحمل العلم السوري خلال حملة “الموجة البيضاء” احتجاجًا على العنف في سوريا في ساحة تروكاديرو، باريس يوم 17 أبريل 2012. انطلق التجمّع ضد نظام بشار الأسد السوري خلال عيد الاستقلال السوري، بعد 66 عامًا على مغادرة آخر الجنود الفرنسيين أراضي الجمهورية العربية السورية. صورة لـAFP / مهدي فدوش

تمامًا مثل باسل شحادة، كان أيضًا لحضور الناشطة السورية الراحلة فدوى سُلَيمان خصوصيّةً. لقد كانت فدوى تنتمي للطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد وكبار قادة مخابراته وجيشه، حيث عارضت النظام وانضمّت إلى جموع الثوار في مدينتها حمص، بل وقادت تظاهرات كثيرة إلى جانب الناشط والمقاتل المعروف عبد الباسط الساروت.

وبرز اسمها في مظاهرات حيّ الخالدية الحمصي في 2011 و 2012، وردَّد جموع المتظاهرين خلفها شعاراً اشتهر خلال المظاهرات الأولى وهو “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”. إنّه شعار يعبّر عن وحدة المكوّنات العرقية والدينية في سوريا في وجه الديكتاتورية.

وتعرّضت سُلَيمان، التي كانت تعمل قبل اندلاع الثورة السورية ممثلة في المسرح والتلفزيون، للملاحقة الأمنية. وعاشت أشهرًا من حياتها متخفّية، وتنقّلت من مكانٍ إلى آخر داخل حمص، إلى أن غادرت البلاد واستقرّت في فرنسا حيث تُوفّيت عام 2017 عن عمر 47 عامًا بعد صراعٍ مع المرض.

مشعل تمّو

كان مشعل تمّو واحدًا من أبرز الشخصيات السورية الكرديّة المعارضة للنظام السوري، والداعية ليكون المكوّن الكردي جزءًا من الثورة السورية ضد الديكتاتورية.

عُرِف تمّو بمشاركته في المظاهرات التي اندلعت في مدينته القامشلي ذات الأكثرية الكرديّة، وشارك في تجمّعات ومؤتمرات للمعارضة السورية. وأسّس في عام 2005 تيارًا سياسيًا حمل اسم المستقبل، واعتُقِل إثر نشاطه السياسي عام 2008، ليُطلَق سراحه في يونيو 2011 أي بعد أشهرٍ قليلةٍ من اندلاع الثورة السورية.

واغتيل تمّو في 7 أكتوبر 2011، من قِبَل بعض المُسَلّحين. واتّهمت المعارضة السورية ودول غربية النظام السوري باغتياله حينها، فيما بقي رمزًا للنضال السلمي ضد النظام السوري، ورفض الأفكار الانفصالية التي نادت بها بعض التيارات الكرديّة.

رزان زيتونة

الناشطون الثوريون في سوريا
رزان زيتونة. المصدر: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

عُرِفَت المحامية السورية رزان زيتونة كواحدة من أبرز المعارضين السلميّين للنظام السوري. ونشطت خلال الأعوام الأولى للثورة في مجال توثيق أسماء المعتقلين والقتلى جراء ممارسات النظام السوري تجاه الحراك المناهض له. وكانت زيتونة من أبرز القياديين المعروفين والمؤسِّسين في لجان التنسيق المحليّة.

واستُدعِيَت زيتونة عدة مرات لإجراء تحقيق معها من قِبَل دوائر الأمن السورية، ثم فضّلت الإقامة في المناطق الخارجة عن سيطرته. وتابعت عملها في مجال توثيق الانتهاكات للنظام السوري والفصائل المسلحة، لتُقيم في مدينة دوما التي خضعت لسيطرة تنظيماتٍ معارضة ومتشدّدة كان أبرزها “جيش الإسلام”، الذي كان يقوده القيادي المتشدّد زهران علوش حين ذاك.

واجهت زيتونة بذلك عدوًّا جديدًا أصرّت على النضال السلمي ضدّه أيضًا، برفقة نُشَطاء معارضين آخرين، هم زوجها وائل حمادة، وزميلاها ناظم الحمادي وسميرة الخليل. وعمل النشطاء الأربعة سويّةً في مقرّ مركز توثيق الانتهاكات ودعم التنمية المحلية والمشاريع الصغيرة في دوما.

وبتاريخ 9 ديسمبر عام 2013، قامت جهة مُسلّحة مجهولة باقتحام مقرّ إقامة النشطاء الأربعة واختطافهم، ليبقى مصيرهم مجهولاً حتى اليوم. وحمّلت عشرات منظّمات حقوق الإنسان مسؤولية ما حدث إلى الفصائل المسلحة المسيطرة على دوما، وسط إنكارٍ من قِبَل جيش الإسلام، الفصيل الأكثر قوّة وتأثيرًا في دوما حينها. وحتى يومنا هذا، ما زالت تتكرّر المطالبات من قِبل المنظّمات وأصدقاء المفقودين وذويهم للكشف عن مصيرهم، لكن من دون أيّ نتيجة. ومع العلم أن مدينة دوما التي تمت عملية الخطف فيها، لم تعد تحت سيطرة المعارضة، حيث استعاد النظام السوري السيطرة عليها في فبراير 2018.

حسّان حسّان

الناشطون الثوريون في سوريا
حسّان حسّان. المصدر: مقطع من يوتيوب

فنانٌ مسرحيٌّ فلسطينيٌّ نشط في منطقة مخيّم اليرموك للّاجئين الفلسطينيين جنوب العاصمة دمشق، في المجال الإغاثي والإعلامي. لقد تحرّك حسّان بكاميرته بين شوارع المخيم ومناطق أخرى محاولًا توثيق الحراك الشعبي، وإنتاج الأفلام القصيرة والبرامج التي ترصد حياة الناس في المخيم خلال تلك الفترة.

وشكّلت كاميرا حسّان تهديدًا للنظام السوري وفق حديث أصدقائه الذين عايشوه في مخيّم اليرموك. لذا، عمد النظام إلى اعتقاله خلال محاولته مغادرة المخيّم الذي كان يتعرّض للحصار، ليُقتَلَ تحت التعذيب بتاريخ 13 ديسمبر عام 2013، في فرع فلسطين المعروف كواحد من أعتى الأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري.

عبد الباسط الساروت

الناشطون الثوريون في سوريا
تُظهِر هذه الصورة التي التُقِطت في 15 مارس 2019، المقاتل الراحل في المعارضة السورية عبد الباسط الساروت يُشارك في مسيرةٍ لإحياء ذكرى انطلاق الثورة السورية، في بلدة معرة النعمان بمحافظة إدلب الخاضعة لسيطرة الجهاديين. عمر الحاج قدور / AFP

يُعتَبر عبد الباسط الساروت من الشخصيات الجدلية في سوريا. لقد كان واحدًا من أبرز الوجوه الشابة في الثورة السوريّة، وحظِيَ بألقابٍ عديدةٍ مثل “أيقونة الثورة السورية”، و”حارس الكرامة”. وقبل انطلاق الثورة، لعب كحارس مرمى لفريق شباب “الكرامة” في مدينته حمص.

ومع انطلاق الثورة، بات الصوت الأبرز فيها، حيث قاد التظاهرات الشعبية في حيّ البياضة في حمص، وفي أحياءٍ أخرى. وأنشد الكثير من الأغاني التي باتت شعارات تتردّد في مختلف أنحاء سوريا.

انتقل الساروت إلى العمل المسلّح، حيث انضمّ إلى جيش العزّة، وهو أحد الفصائل المعارضة المقاتلة في المنطقة الوسطى والشمالية، وقاد كتيبةً مسلّحة في منطقة حمص. وقُتِل في مواجهاتٍ ضدّ الجيش السوري في يونيو 2019.

ولاقى الساروت انتقادات شتى عندما سرت شائعات بانضمامه إلى قوات تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما نفاه الساروت فيما بعد. إلا أنّ مسيرته اعتُبِرت مثلًا رمزيًا لمسيرة الثورة السورية ككل، من خلال الانتقال من العمل السلمي الخالص إلى العمل المسلّح.

القاسم المشترك بين هؤلاء النشطاء هو أنّهم كانوا يهدفون إلى تحقيق سوريا حرّة وديمقراطية، حيث تطغى سيادة القانون وتتطبّق الحقوق على الجميع.

النضال السلمي تحت الضغط

بعد أقل من سنتين من انطلاق الثورة، وجد نشطاء الثورة السورية، ودُعاة التغيير إلى نظامٍ مدنيّ يستوعب الجميع، أنفسهم أمامَ ثلاثة خيارات.

الخيار الأول هو البقاء في مناطق سيطرة النظام، وهو خيار محفوف بالمخاطر سيعرّضهم للسجن، ويحمل احتمال الموت تحت التعذيب الذي واجهه آلاف السوريين.

الخيار الثاني هو الحياة في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة، وهو أيضًا ما سيجعلهم في موقع اصطدام مع فصائل مسلحة غالبيتها متشدّدة، ستمارس ضدّهم سلوكيات مشابهة لما يمارسه النظام السوري عادةً ضد معارضيه. وقد غُيِّب وقُتِل الكثير من النشطاء المدنيين في سجون فصائل متشدّدة، ولعلّ مصير رزان زيتونة ورفاقها أوضح مثال على ذلك.

الخيار الثالث هو مغادرة البلاد. وهو خيار لجأ إليه عدد كبير من النشطاء، ليفقدوا بذلك القدرة على التأثير المباشر، ويبتعد كثير منهم عن العمل في الشأن السوري تحت أثر الاغتراب، وفقدان القدرة على التواصل الفعّال مع الداخل. الداخل الذي أجبرهم المسيطرون عليه بمختلف أشكالهم أن يغادروا. فلم يكتمل مشروعهم بتشكيل معارضة مدنية حقيقية تعمل من داخل سوريا، وتقاوم كافّة أشكال الاضطهاد والظلم، وتسعى لبناء وطن يستوعب الجميع. كانت الفصائل المسلّحة بمختلف تبعيّاتها، تشكّل حاجزًا في وجه أيّ نشاط مدنيّ حقيقيّ يريدون القيام به.

أمام هذا المشهد، بَقِيَت المعارضة السورية متمثّلة بشكلين أساسيّين. الشكل العسكري الذي ارتهن تباعًا لسيطرة وتأثير قوى خارجية، إضافةً إلى الطابع الإسلامي المتشدّد الذي كسا غالبية التنظيمات العسكرية المعارضة. والشكل السياسي المتمثّل أيضًا بقوى سياسية مُقيمة في الخارج، فاقدةً القدرة على التأثير من جهة، وتابعة أيضًا لسلطةِ دول خارجية ولا تحظى بشعبيةٍ داخل سوريا.

المعارضة المُرَخّصة

مقابل مشهد المعارضة السورية بأشكالها المختلفة، قام النظام السوري بتشكيل نوع من المعارضة يتناسب معه، أُطلِق عليه اسم “المعارضة المرخّصة”. هذه الأخيرة هي عبارة عن تكوينات سياسية نشأت تحت سلطة النظام، سُمِح لها بالحضور الإعلامي والتعبير عن مواقفها. وكانت تلك التكوينات دائمًا عرضةً للسخرية، كونها تحمل رؤى وتصوّرات النظام السوري ذاتها، فيما يُسمَح لها بمهاجمة الفساد الإداري داخل مؤسّسات النظام بين وقت وآخر. ويمكن ذكر أبرز تلك التكتّلات.

الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير

تكتُّل سياسي ضم أحزابًا مرخّصة سابقًا في سوريا، وتعمل جنبًا إلى جنب مع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، إضافةً إلى اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين. وكان هدف هذا التكتّل، وفق ما أعلن عنه حين تأسيسه في يوليو 2011، “الإصلاح الشامل في سوريا، والحفاظ على الوحدة الوطنية في وجه الضغوط والتدخّل الخارجي”. كما أعلن تأييده للجيش السوري وعملياته العسكرية في البلاد.

وأبرز القياديين في تلك الجبهة هو قدري جميل، الذي أصبح بعد تأسيس الجبهة عضوًا في مجلس الشعب (البرلمان السوري)، ثم وزيرًا في حكومة النظام السوري، ثم نائبًا لرئيس مجلس الوزراء. وفي ما بعد، تمّ إقالته بسبب تغيّبه عن عمله، حيث كان قد انتقل للإقامة في موسكو، وأسّس فيها ما سُمِّيَ بـ “منصة موسكو” للمعارضة السورية. تلك المنصّة متّهمة دائمًا بالقرب من النظام السوري، والعمل مع الداعم الأهم للنظام، المتمثّل بروسيا.

حزب سوريا الوطن

تكتُّل سياسي، حصل على ترخيصٍ من وزارة الداخلية في حكومة النظام السوري عام 2012، مهمّته الدفاع عن “السيادة الوطنية” ورفض التدخل الخارجي في القضية السورية. أقام الحزب مجموعة فعاليات عارض من خلالها زيادة الأسعار وهاجم الفساد. وكانت مجد نيازي، وهي فنانة تشكيلية وصاحبة مطعم في دمشق، الأمينة العامة للحزب، قبل وفاتها في 2019، وهي من الشخصيات المعروفة بوقوفها إلى جانب الجيش السوري في معاركه ضدّ المعارضة المسلّحة داخل سوريا.

حزب الشباب للبناء والتغيير

حزبٌ سياسيٌّ تمّ ترخيصه عام 2012، يشابه حزب سوريا الوطن في التوجّه والأهداف، يسعى حسب أدبيّاته إلى تفعيل دور الشباب في “بناءِ مجتمعٍ سليمٍ ومعافى”، ومحاربة الفساد، و”استقلال القرار الوطني”.

قام الحزب بمجموعةٍ من الفعاليات الاجتماعية والإغاثية، إضافةً إلى لقاءاتٍ جمعت قادة من الحزب مع مسؤولين سياسيين وعسكريين روس.

بيان قوى معارضة الداخل

بالإضافة إلى أحزاب “المعارضة” المرخصة من النظام، ظهرت حركات شعبية أخرى حاولت طرح أجندات سياسية. في شهر مارس من عام 2021 أَطلقت ثلاث قوى، يُطلَق عليها توصيف “معارضة الداخل”، بيانًا تضمن مشروعها للوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ في سوريا. وكان البيان هزيلًا لم يترك أي أثر، حيث لم يتمّ التعامل معه بجديّة من قِبَل أيّ طرفٍ سياسيّ. والقوى الموقّعة على البيان هي “المؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار”، و”هيئة التنسيق الوطنية – حركة التغيير الديمقراطي“، و”المبادرة الوطنية في جبل العرب“.

وحاولت تلك القوى، إضافةً لقوى أخرى، عقد مؤتمر وطني في دمشق لإنشاء ما سمّته “الجبهة الوطنية الديمقراطية”، إلّا أن قوات الأمن السورية عطّلت انعقاد المؤتمر، ومنعت توافد الصحفيين إليه. وما يقود للقول بأن القوى، التي رخّص النظام السوري لعملها المعارض في الداخل، لا يمكنها أن تقوم بأيّ خطوة خارجة عن إرادة النظام، في حال نوت تلك القوى أصلًا تنفيذ سلوك ما من دون الرجوع لدوائر النظام.

Advertisement
Fanack Water Palestine