كتب المؤرخ اليهودي سيمون سيباغ مونتفيوري في كتابه “القدس: السيرة الذاتية،” أنه في الأدب اليهودي المُقدس تُخاطب القدس دوماً بصيغة المؤنث: “فهي دوماً امرأةٌ تنبض بالحياة مثيرةٌ للمشاعر وآيةٌ من الجمال، إلا أنها في بعض الأحيان عاهرة قليلة الحياء، تكون في بعض الأحيان أميرةً جريحة تخلى عنها عشيقها.”
تعتبر القدس حالياً واحدةً من أقدم المدن في العالم، وهي مدينة منقسمة بين الاسرائيليين والفلسطينيين وتخصع لسيطرةٍ إسرائيلية. فقد سُكنت باستمرار منذ 2800 قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين، تم غزوها واستعادة السيطرة عليها 44 مرة. وكان الكنعانيون واليهود والبابليون والفرس واليونان والرومان والبيزنطيون والمسلمون والصليبيون والعثمانيون والبريطانيون من بين حكّام القدس.
ترك اليهود والمسلمون والمسيحيون، على وجه الخصوص، بصماتٍ واضحة على المدينة. فعلى سبيل المثال أثناء التجول سيراً على الأقدام، لعشر دقائق، في أروقة البلدة القديمة في القدس الشرقية التي تحتلها اسرائيل، يمكن للمرء زيارة المعالم الدينية هناك الواحد تلو الآخر. تقع كنيسة القيامة في قلب المنطقة، حيث يُعتقد أن يسوع المسيح صُلب ودفن. وعلى بعد خطواتٍ قليلة، يقع معلمان إسلاميان بشموخٍ فوق الجبل المعروف بالحرم القدسي الشريف: قبة الصخرة (واحد من أقدم الأعمال الهندسية المعمارية الإسلامية)، والمسجد الأقصى ثالث أقدس المواقع لدى المسلمين. أما الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف فهو المكان الذي يعبر فيه اليهود المتدينون عن أسفهم منذ ألفي عام على خسارتهم معبدهم الذي كان يوماً ما حيث توجد قبة الصخرة اليوم.
تعكس الجملة الأخيرة سمّة جوهرية لمدينة القدس: فقد دمرت المدينة وأعيد بناؤها مراراً وتكراراً، وكل قوة حاكمة جديدة عدّلت المدينة وفقًاً لتفضيلاتها. كان أول هؤلاء الكنعانيون الذين توسعوا ببناء مستوطنةٍ حول نبع جيحون، إلى الجنوب مباشرةٍ من البلدة القديمة حالياً. قاموا بحراسة النبع ببناء برجٍ وجدار. وفي عام 1458 قبل الميلاد، غزت مصر فلسطين. بدأ تاريخ القدس التوراتي المعروف حوالي 1000 قبل الميلاد، عندما جعلها الملك داود عاصمة مملكة إسرائيل. كان ابن داود، سليمان، من بنى المعبد اليهودي الأول على جبل الهيكل. في وقتٍ لاحق، قسمت مملكة إسرائيل إلى قسمين وأصبحت القدس عاصمة مملكة يهوذا.
ووفقاً للكتاب المقدس اليهودي (تناخ)، تم تدمير هذا المعبد الأول في عام 587 قبل الميلاد من قبل نبوخذ نصر الثاني، ملك بابل. تم بناء معبد آخر وحُكمت القدس على التوالي من قبل الفرس، والمقدونيين، والبطالمة، والسلوقيين، قبل أن يؤسس سيمون ماكابيوس، في عام 152 قبل الميلاد مملكة الحشمونائيم (المكابيين). وبعد قرنٍ تقريباً، سقطت المدينة بيد الرومان، الذين قاموا بتعيين هيرودس ملكاً تابعاً لليهود.
كان لهيرودس تأثيرٌ كبيرٌ على المدينة، حيث قام بتوسيع جبل الهيكل ليصبح الهضبة الشاسعة الموجودة اليوم. وفي الفترة التي توفي فيها هيرودس في عام 4 قبل الميلاد، بدأ يسوع المسيح الوعظ. أصبحت تعاليمه ديناً عالمياً كبيراً، ولكنه في النهاية قدم حياته ثمناً لمعتقداته، حيث صلب في الجلجثة.
وبعد مرور عقدين على وفاة المسيح، دمر الرومان الهيكل اليهودي الثاني، ولم يبق أي شيءٍ من القدس القديمة وتم إعادة بناء المدينة التي حملت اسم أيليا كابيتولينا. وبعد بضعة قرون فحسب، بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين العظيم المسيحية، استعادت القدس اسمها وتم بناء كنيسة القيامة على موقع صلب المسيح.
تعرضت القدس لصدمةٍ جديدة عام 638 م، عندما غزا الخليفة المسلم عمر بن الخطاب المدينة، حيث بنيت المعالم الإسلامية على جبل الهيكل. وبصرف النظر عن القرن الواحد الذي حكم خلاله صليبيون أوروبيون المدينة، أي حوالي القرن الثاني عشر، إلا أن القدس ظلت في أيدي المسلمين حتى عام 1917.
وفي عام 1517، استولى العثمانيون على المدينة. بنى السلطان سليمان القانوني الجدران المحيطة بالبلدة القديمة، التي لا تزال قائمةً حتى يومنا هذا. وبالمقارنة مع مدينة داود القديمة، توسعت القدس قليلاً نحو الشمال – حيث أحاطت جدران سليمان بالحي المسيحي الجديد نسبياً، الذي بدأ بالظهور حول كنيسة القيامة. أما الأرباع الثلاثة الأخرى للمدينة فتنقسم بين المسلمين واليهود والأرمن.
في عهد العثمانيين، تراجعت أهمية القدس إلى بلدة بسيطة مزدهرة، إلا أنها بالرغم من ذلك حافظت على أهميتها الدينية للمسلمين والمسيحيين واليهود. آنذاك، كان اليهود متناثرين في جميع أنحاء العالم، إلا أن عدداً صغيراً منهم حافظوا على وجودٍ دائم في مدينتهم المقدسة. وحوالي عام 1860، بدأت القدس في التوسع خارج جدرانها الأصلية، حيث حضر ممثلون دوليون إلى المدينة وبدأت عملية التحديث.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، وصل أوائل الصهاينة إلى فلسطين العثمانية. ومع ذلك، فإن هؤلاء اليهود لم يحبوا صهيون القديمة على وجه الخصوص. بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقبلي، دافيد بن غوريون، طرح فكرة تحديد موقع عاصمة دولة أحلامه على الساحل: كانت حيفا المرشحة الرئيسية. فقد كان الصهاينة قد بدأوا بالإبتعاد عن الدين اليهودي، إذ أن الصلاة اليومية التي تعدّ فيها القدس نقطةً محورية كانت تقتصر آنذاك على مجموعة صغيرة من اليهود الأرثوذكس. وعليه، وجد البريطانيون، الذين حكموا المنطقة من عام 1917 إلى عام 1948، أنفسهم في وسط صراعٍ متزايد بين العرب الأصليين واليهود، الذين انتقلوا إلى المنطقة بأعداد متزايدة بسبب تزايد معاداة السامية في أوروبا. بنى اليهود مؤسساتهم الخاصة، وكانوا يعدون أنفسهم للتخلص من الحكم البريطاني وإقامة دولتهم الخاصة. كان العرب مستاءين جداً من هذه الأحداث وبدأوا في التمرد. ففي العقود الثلاثة من الحكم البريطاني، ارتفع عدد المقدسيين من حوالي 50 ألف نسمة إلى أكثر من 160 ألف نسمة، ثلثيهم من اليهود.
وبعد الحرب العالمية الثانية، التي هلك فيها حوالي 6 ملايين يهودي، نمت الرغبة في إنشاء دولةٍ يهودية. اعتمد اليهود على أعمال الإرهاب – على سبيل المثال، كان مناحيم بيغن الذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء إسرائيل، العقل المدبر لتفجير فندق الملك داوود في عام 1946، وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل 91 شخصاً.
وعندما تأسست إسرائيل في عام 1948، تم إعلان القدس عاصمةً لها. وفي المعركة التي تلت ذلك ضد عددٍ من الجيوش العربية، تمكنت إسرائيل فقط من تأمين الجزء الغربي من المدينة. أصبحت القدس الشرقية، التي تضم البلدة القديمة وبالتالي الجدار الغربي، جزءاً من الأردن. وعليه، لم يعد بإمكان اليهود زيارة أحد أقدس الأماكن بالنسبة لهم.
عندما ضمت إسرائيل هذا الجزء من القدس في عام 1967، ترسخت قوة دفعٍ دينية متشددة. ولأول مرة منذ آلاف السنين، كانت القدس جزءاً من دولةٍ يهودية ذات سيادة. هدم حي المغاربة، الذي يسكنه بشكلٍ رئيسي مسلمون من المغرب، لإنشاء ساحةٍ كبيرة أمام الحائط الغربي.
ألهم الاحتلال الإسرائيلي المغنين والكتاب والشعراء لتخليد البلدة القديمة. فقد كان المواطن الإسرائيلي العادي ينظر بفضول إلى الأسواق العربية في المدينة المحاطة بالأسوار، حيث لم يُسمح لأي يهودي بالدخول لمدة 19 عاماً.
في الوقت نفسه، كانت إسرائيل تمر بتغيرٍ ديموغرافي شهد في نهاية المطاف اكتساب اليهود المتدينين موطىء قدم. فقد نشأت حركة جديدة هيمنت على السياسة الإسرائيلية: الصهيونية المتدينة. وبالنسبة لأعضاء هذه المجموعة، لم يكن الإحتلال الإسرائيلي للمدينة القديمة وبقية الضفة الغربية نصراً سياسياً استراتيجياً عارضاً. فما يعرف دولياً بالضفة الغربية، يُطلق عليه الصهاينة اسم يهودا والسامرة، أو موطن اليهود التوراتي؛ وما يعتبر دولياً “احتلالاً” للأراضي الفلسطينية، يسمونه “تحريراً” للأراضي اليهودية من العرب.
في نظر الصهاينة، لا ينبغي أبداً التخلي عن هذه المناطق- ولا سيما القدس الشرقية. أما في السياسة الإسرائيلية، يُشار إلى القدس على أنها عاصمة “إسرائيل الخالدة وغير القابلة للتجزئة.” ولتعزيز هذه الكلمات، نفذت إسرائيل منذ السبعينيات سياسةً استيطانية عدوانية. وبصرف النظر عن المستوطنات في تلال الضفة الغربية، استقر حوالي 200 ألف يهودي أيضاً في القدس الشرقية، تحت سلطة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. حتى أن المئات من المتعصبين اليهود قاموا بالإستيلاء على المنازل في الأحياء الإسلامية والمسيحية في البلدة القديمة.
كما يُشار إلى هذه المستوطنات أيضاً بمصطلح “الحقائق على الأرض“: كلما ازداد عدد اليهود الذين يستقرون في القدس الشرقية، ازدادت صعوبة منح هذه المنطقة للفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، هناك مشروع قانونٍ برلماني، في حال المصادقة عليه، سيضع ضواحي القدس الفلسطينية خارج حدود البلدية، مقابل بناء عددٍ من المستوطنات اليهودية الكبيرة في المنطقة. هذا ويتعرض الفلسطينيون الذين ما زالوا يعيشون في القدس لضغوطٍ شديدة من أجل المغادرة، أما أولئك الذين يغيبون عن منازلهم لفترةٍ طويلة من الزمن، يتعرضون لمصادرة ممتلكاتهم ويمنعون من العودة للعيش في المدينة.
رسالة الإسرائيليين مفادها أن القدس هي مدينةٌ يهودية وستبقى كذلك، وهذا بالضبط ما أيده الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بقراره، الذي أصدره في مايو 2018، بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل.