الأغاني الشعبية الفلسطينية شاركت تاريخياً في تجسيد صور المعاناة التي مرّت وما تزال تمرّ على فلسطين. وهي أيضاً في نظر الكثيرين فعل مقاومة خاص.
يوسف م. شرقاوي
تُعَد الأغنية الشعبية واحدة من أهم عناصر التراث الفلسطيني التي لعبت دوراً هاماً في الحفاظ على الهوية الفلسطينية. وبطبيعة الحال، فإن ما قدمه التراث الغنائي الفلسطيني على المستوى الشعبي يحكي الكثير عن فلسطين وشعبها وتاريخها.
وتلعب الموسيقى دوراً أساسياً في الثقافة الفلسطينية، لانغراسها في التجمعات السياسية والمناسبات الاجتماعية. وللمعلومية، فإن الفولكلور الشعبي الفلسطيني يزخر بالإبداعات الشعرية والحرفية والموسيقية ومختلف أساليب التعبير. ويضاف إلى هذا الفولكلور أساليب العيش واللباس وألوان الدبكات والرقصات والعادات والتقاليد.
الأغنية الشعبية: خصائصها وأنواعها ومراحلها
سعى الكثير من الأكاديميين لتعريف الأغنية الشعبية الفلسطينية وتحديد الخصائص التي تعرّفنا بها. وبحسب الباحث إحسان الديك، فإنّ الأغنية الشعبية من أكثر فنون الأدب الشعبي شيوعاً وأهمية، فهي “تؤدى باللحن والكلمة معاً”. كما أنها، حالها حال الأدب كلّه، تعبّر عن “اللاشعور الجمعي للشعب واهتماماته وخلجاته النفسية، ويرتبط بالفطرة ويترك في كلّ جيل أثره”.
ووضع الدكتور أحمد مرسي خصائص عدّة للأغنية الشعبية الفلسطينية. ومن هذه الخصائص أن تكون الأغنية تكون شائعة، وأن يتم تناقلها عن طريق الرواية الشفوية. كما أن هذه الأغنية لا بدّ وأن تتّسم بالمرونة مما يساعدها على الديمومة. وإلى جانب ذلك، فإنّ أسماء الذين ألّفوا هذه الأغاني تكون مجهولة، عدا المحترفين الذين يكتب لهم مؤلفون أغاني ومواويل خاصة بهم.
وهناك أنواعٌ كثيرة للأغنية الشعبية الفلسطينية، منها الموّال بأنواعه البغدادي والأعرج والنعماني. وتختلف طبيعة الموّال وتسميته بحسب عدد الأبيات وتنويع القوافي. ويندرج في إطار الأغاني الشعبية أغاني الأعياد والاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى أغاني الحب والغزل والأفراح والختان والميلاد.
وتشمل القائمة أيضاً أغاني الحرب والحماسة والحثّ على القتال. كما تمتاز الأغنية الشعبية الفلسطينية بتلوّن مقاصدها، فبعضها يتناول الجانب السياسي والبعض الآخر للرثاء أو منادمة الشراب أو سرد الحكايات.
وبحسب بعض المراجع، فإنّ الأغنية الشعبية الفلسطينية مرّت بثلاث مراحل وهي الكلاسيكية والرومانسية والواقعية. وتمحورت المرحلة الكلاسيكية حول “مفاهيم طبقة الإقطاع السائدة” في مرحلة ما قبل وقوع نكبة فلسطين. فالدين هو محورها، والقضاء والقدر والقبول التام إلى حد القناعة هو أقصى ما تقدمه هذه الأغاني لطبقة الفلاحين والفقراء والحرفيين. ومن أغاني تلك المرحلة:
يا زارع الوِد هو الود شجرة قُل
وسواقي الوداد نزحت وماءها قَل
أيام بناكل عسل وأيـام بناكل خَل
أيام ننام ع السرير وأيام ننام ع التّل
أيـام نلبس حـرير وأيـام نلبس فـل
أيام بتحكم على أولاد الكـرام تنذل
أما المرحلة الرومانسية فقد ظهرت مع نشوء البرجوازية الجديدة في فلسطين ما قبل النكبة. وفي هذه المرحلة الجديدة، وجد الشعراء وناظمو الأغاني الشعبية في الرومانسية منفذاً للطاقة الشعبية التي تدفقت في مناخ أوسع وأشمل. بيد أن هذا المنفذ لم يتجاوز الهوامش البرجوازية التي سادت تلك المرحلة. ومن أغاني هذه المرحلة:
مـن بعــد هشيـم العظـام لـيش التقطـيب
بتقطّبوني يا ناس وأنا أصلي كنت طـبيب
فتّـشت بالجسـم لقـيت جـرح بـلا تقطـيب
كل ما أخيّط دوايره يفلت مني ولا يطيب”
أما المرحلة الثالثة وهي الواقعية، فقد جاءت نتيجة لحتميّة تطور الصراع الوطني في فلسطين في مطلع القرن العشرين وبداية الثورات الوطنية الشعبية ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. ومن أغاني هذه المرحلة:
مهما طال عتم الليل بتجليه شمس الحريّة
مهما طال الليل وطال وغطى سواده ع الأطلال
عنّا في الوطن أبطال بتعيد شمـس الحريــة
لأجـل الزيتونة والتوت وأشجار المندلينا
بدنا نحارب حتى نموت أو ترجع فلسطينا
الأغنية الشعبية والتأريخ حتى النكبة
لا يمكن تحديد بدايات الأغنية الشعبية الفلسطينية. وقد تعود البدايات إلى العهد الكنعاني أو الفرعوني. وتطوّرت هذه الأغنية بمفرداتها، وفقاً لمحمد البوجي، أستاذ الأدب العربي والشعبي الفلسطيني في جامعة الأزهر بغزة، منذ ظهور القضية الفلسطينية بداية القرن العشرين. وللمعلومية فإنّ هذا التطور ما زال متواصلاً حتى الآن.
ويشمل ذلك مرحلة الاحتلال البريطاني والنكبة وانطلاقة الثورات والانتفاضات الشعبية. وشكلت جميع هذه الأغاني جزءاً مهماً في تراث الفن الفلسطيني. وكانت تحمّس مشاعر الجماهير بشكل مستمر ضد المحتل.
ووفقاً لدراسة أجرتها الباحثة بنان صلاح الدين بعنوان “البعد الوطني في الأغنية الشعبية الفلسطينية 1917 – 1948″، فإنّ الأغنية الشعبية بدأت تطوّر مفرداتها لرفض الانتداب البريطاني ومقاومة مخططاته. وجاء ذلك منذ الإعلان عن وعد بلفور عام 1917. وثمة عتابا شهيرة من ذلك الوقت يجيء في آخرها:
بلفور وعدك مش على حساب
الضحايا المقتولين
يا حلالي يا مالي
واستمرت تطّور لغة الأغنية الشعبية الفلسطينية مع هبّة البراق التي شهدتها القدس في عام 1929. ومن أبرز الأغاني التي ظهرت حينذاك الأغنية التي أرّخت لإعدام الثوار الثلاثة فؤاد حجازي، عطا الزير، ومحمد جمجوم. وكتب هذه الأغنية الشاعر الشعبي نوح إبراهيم عام 1930 وغنّتها فرقة العاشقين بعد ذلك في الثمانينات. وبمرور الزمن، صارت هذه الأغنية من أبرز الأغاني الشعبية الفلسطينية.
وتابعت الأغنية الشعبية تكيّفها مع تطورات القضية الفلسطينية، لا سيّما الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. وحاولت الأغاني تأريخ المعارك التي وقعت حينذاك، خصوصاً معارك بلعا وترشيحا وجبع وبني نعيم وغيرها. وواصلت الأغنية الشعبية مواكبة هذا التاريخ بأدق تفاصيله، حتى جاءت نكبة 1948. ومن الأمثلة الأغاني التي جاءت لسرد أحداث معركتي باب الواد والقسطل.
وبعد النكبة، ركزت الأغنية الشعبية اهتمامها على وصف معاناة اللاجئين الفلسطينيين وتأريخ مأساتهم. وتهكّمت بعض الأغاني على ما كانت تقدمه لهم المنظمات الدولية لهم، لا سيّما الصليب الأحمر ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا“. ومن تلك الأغاني:
الصليب الأحمر كبّوا طحيناته ضيّع الوطن يفضح خَوَاته
الصليب الأحمر كبّوا سردينه ضيّع الوطن الله يحرق دينه
وتقول أغنية دلعونا أخرى:
دشّرنا كروم العنب والتين وجينا ع ريحا نشحد طحين
دشّرنا بلاد العنب واللوز وجينا ع ريحا نشحد (زيت) كيكوز*
وثمة أغنية عن وكالة الأونروا تقول:
بيقولوا عنّا مهجّرين وبيعدّونا مساكين
بسلموا النفر كيلو طحين صدقة من الاستعمار
بنروح مركز التموين بنلاقي الناس مصطفين
عشان شوية طحين يا للمصيبة والعار
واستمرت الأغنية الشعبية بعد ذلك تحكي عن حنين اللاجئين لوطنهم ومعاناتهم في بلاد الاغتراب واللجوء.
ومن الأغاني الشعبية الفلسطينية الراسخة أغنيتان هما جفرا وهي يالربع ويا ظريف الطول، اللتان خصّص الباحث حسين سليم العطاري كتاباً للحديث عنهما.
المقاومة بالغناء: ربط الحاضر بالماضي
يرى الكاتب أشرف الحساني أنّ تراث الأغنية الفلسطينية لم يقتصر على التوثيق والأرشفة والتأريخ، بل ظلّت أصواته وموسيقاه تُحاكي زخم تموّجات الواقع الفلسطينيّ وما شهده من تحوّلاتٍ وتبدّلات. واخترقت الأغنية الطابع الروتيني لحياة الناس وعبّرت عن جروحهم ومآسيهم في نقد الاحتلال الإسرائيلي.
وبحسب الحساني، فإنّ الأغنية الشعبية وسّعت مفهوم المُقاومة الفلسطينيّة، وأضحت وسيلة للتعبير والنقد. ومنذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، باتت أغني المقاومة تلقى رواجاً وقبولاً كبيراً في الشارع العربي، كما أنها باتت اللون السائد للأغنية الشعبية الفلسطينية.
وهنا، لا بدّ من الإشارة لأهمية الحفاظ على التراث الفلسطيني ومن ضمنه الأغنية الشعبية الفلسطينية، سيّما وأنّه التراث يلعب دوراً مباشراً في مواجهة محاولات فصل الهوية الفلسطينية الحالية عن ماضيها. وبالتالي، فإنّ أي عمليّة استرجاع للتراث وزرعه في الحاضر والمُعاش الفلسطيني، يصبّ في ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية.
وبطبيعة الحال، فإنّ الفلسطينيين يستحضرون تراثهم أكثر من غيرهم لأسبابٍ مختلفة. ويأتي على رأس هذه الأسباب تباين الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي يعيشها الفلسطينيون في مختلف المناطق التي يعيشون فيها. وبحسب مجلّة رمّان الثقافية، فإنّ محاولات الفلسطينيين المتواصلة لاستحضار التراث الغنائي الفلسطيني ما هي إلا وسيلة للتأكيد على الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني.
وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود تجارب جماعية متعدّدة قام بها الفلسطينيون لإحياء تراثهم الفني والغنائي والموسيقي. ومن الفرق التي برزت بشكلٍ كبير فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية وفرقة الحنّونة وفرقة العاشقين وفرقة ديرتنا للفنون الشعبية وفرقة أصايل وفرقة جفرا.
أما التجارب الفردية الكثيرة يمكن أن نذكر منها تجربة عبد الله حداد وريم كيلاني وأمل مرقس وريم بنا وسناء موسى ودلال أبو آمنة.
إلى جانب هذه الجهود في إحياء التراث، ثمة جهودٌ أخرى من أجل الحفاظ على التراث، ومبادرات لتوثيق الأغنية الشعبية الفلسطينية، مثل “مركز الفن الشعبي”. وبدأ هذا المركز عمله التوثيقي منذ عام 1994.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن الأغاني الشعبية الفلسطينية شاركت تاريخياً في تجسيد صور المعاناة التي مرّت وما تزال تمرّ على فلسطين. كما أنها ساهمت بشكل خاص في توثيق الأحداث التاريخية. وهي أيضاً في نظر الكثيرين فعل مقاومة خاص، يرسخ الهوية الوطنية الفلسطينية عبر ربط حاضرها بماضيها أمام المحاولات الكثيرة لفصل هذا الحاضر عن ماضيه.