وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تطوير الاقتصاد الفلسطيني

سوق في الخليل. Photo Flickr.
سوق في الخليل. Photo Flickr.

الفترة الأردنية
الاستيطان الاسرائيلي في فلسطي
القيود الإسرائيلية
دور العمال الفلسطينيين في إسرائيل
نمو دون تطور
بعد اتفاق أوسلو
الاعتماد على المساعدات
التوازن

منذ العصور القديمة، كان الفلسطينيون مزارعين لتوفر التربة الخصبة والمياه. ففي الضفة الغربية، تساعد سلسلة الجبال الممتدة من الشمال إلى الجنوب على سقوط الأمطار. تتجمع المياه في طبقات المياه الجوفية وتظهر على السطح على شكل ينابيع. في الضفة الغربية، هناك طبقات مياه جوفية في الشرق والغرب، وتمتد إلى البحر الأبيض المتوسط والأردن على التوالي. تنتهي المنطقة الجوفية الساحلية في الجزء الشمالي من قطاع غزة. إلى جانب هذه الطبقات، يشكل نهر الأردن أيضاً مصدراً هاماً للمياه منذ العصور القديمة. غير أن كمية ونوعية المياه انخفضت بشكل كبير جداً خلال العقود الماضية إلى حد أن مساهمة النهر في الزراعة تضاءلت بشدة.

عاش المزارعون في الماضي في مجتمع مكتفٍ ذاتياً. إلا أن هذا تغير منذ منتصف القرن التاسع عشر نتيجة ازدياد العلاقات التجارية مع الدول الغربية. ومنذ ذلك الحين، كانت فلسطين تصدّر منتجات مثل الحبوب والحمضيات وزيت الزيتون والصابون، وإنما أيضاً النسيج والأعمال الزجاجية، إلى الأسواق الغربية عبر موانئ يافا وحيفا وعكا. وبالمقابل، وجدت المنتجات الصناعية الغربية طريقها إلى السوق الفلسطينية.

استمر هذا الوضع في عهد الانتداب البريطاني عام (1920-1948). وكان التطور الهام في هذه الفترة هو التوسع التدريجي في الاقتصاد الموازي من خلال المستوطنين اليهود. حيث أن شراءهم للأراضي لم يدفع الأسعار للارتفاع فحسب، وإنما أيضاً طرد المستأجرين الفلسطينيين من أراضيهم.

خلال حرب 1948 (النكبة)، أُغرقت الضفة الغربية وقطاع غزة بتدفق هائل للاجئين الفلسطينيين، والذي عجز الاقتصاد عن استيعابه.

الفترة الأردنية

خلال حرب عام 1948، احتلت إمارة شرق الأردن الضفة الغربية، وضمتها لاحقاً عام 1950. ونتيجة لذلك، تم عزل المنطقة عن الشريط الساحلي الذي كانت مرتبطة به ارتباطاً وثيقاً اقتصادياً. وأصبحت الضفة الغربية محاطة باليابسة. وما تلا كان التوجه الاقتصادي الإلزامي للضفة الغربية في إمارة شرق الأردن (أصبحت تدعى بالأردن بعد ضم الضفة الغربية). في ذلك الوقت، كانت الأردن بلاداً صحراوية في المراحل الأولى من تطورها.

بعد ذلك مارست السلطات الأردنية سياسة دعمت فيها الضفة الشرقية أكثر من الضفة الغربية من حيث الاستثمارات وبناء بنية تحتية. بالإضافة إلى ذلك، تطورت الضفة الشرقية أكثر، في حين كان اقتصاد الضفة الغربية راكداً. وتم إغراء عدد كبير من الفلسطينيين للاستقرار في الضفة الشرقية. وغادر آخرون إلى دول الخليج، حيث كان الطلب على العمال في ازدياد نتيجة ارتفاع عائدات النفط. وهاجر البعض إلى أمريكا الشمالية والجنوبية ومناطق أخرى في العالم.

عام 1948، تم أيضاً اقتطاع قطاع غزة فجأة عن مناطقه الاقتصادية النائية. ووضعت المنطقة تحت سلطة عسكرية من قبل مصر، والتي بالكاد استثمرت في اقتصاده بعد ذلك. وتم ملأ الفراغ بشكل أساسي من قبل منظمة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا). وفي مرحلة لاحقة، وفرت مصر التعليم وفرص العمل للفلسطينيين.

في الفترة التي سبقت الاحتلال الإسرائيلي، كان نصف السكان العاملين في الضفة الغربية مزارعين أو فلاحين. ومع ذلك، كانوا يساهمون بـ 25% من الناتج الإجمالي المحلي فقط. وكان هذا يعادل قطاع التجارة تقريباً، حيث وجد عدد أقل من الناس فرصاً للعمل. وكانت الشركات العائلية الصغيرة تحدد كل من قطاعي الزراعة والصناعة.

الاستيطان الاسرائيلي في فلسطين

في حرب يونيو/حزيران عام 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة. وللمرة الثانية خلال عقدين من الزمن، اضطرت كلتا المنطقتين إلى إعادة التوجه اقتصادياً، هذه المرة مع عواقب منهكة وبعيدة المدى. ومنذ ذلك الحين، لم تكتف إسرائيل بالاحتلال، وإنما أيضاً باستعمار فلسطين على نطاق واسع. وقد رسمت خطوطه العريضة فيما يسمى بخطة ألون، والتي تم تقديمها إلى الحكومة الإسرائيلية بعد شهر فقط من وقف الأعمال العدائية. كانت سياسة وإستراتيجية الخطة توسيع الحدود الشرقية لإسرائيل باتجاه نهر الأردن، والتي كان من المقرر تنفيذها أكثر ببناء عدد المستوطنات اليهودية في وادي الأردن. وبالتالي يتم عزل المجتمع الفلسطيني الكبير في الضفة الغربية عن المجتمع الفلسطيني في الأردن. وكان بناء المستوطنات حول القدس الشرقية سيوفر ضم القدس الشرقية بحكم الأمر الواقع.

على أساس هذه السياسة، جردت إسرائيل فلسطين من ملكيتها وصادرتها لاحقاً بشكل منهجي بعد عام 1967. وهذه تتعلق بأراضي الدولة بالإضافة إلى الأراضي الخاصة المملوكة للفلسطينيين، والتي لم يكن من الممكن إثبات حق ملكيتها بشكل حاسم في كثير من الأحيان. تمت المصادرة بناء على الأوامر العسكرية التي أصدرتها الحكومة العسكرية، والتي تم تنصيبها مباشرة بعد احتلال المنطقة. وقد تم إعلان كل مناطق الضفة الغربية و قطاع غزة “مناطق عسكرية مغلقة”. وكانت هذه على الأغلب قطاعات من الأراضي ذات جودة عالية، ولا سيما في وادي الأردن والجزء الشمالي الغربي من الضفة الغربية على طول الحدود مع إسرائيل. وعلى الأراضي المصادرة، تم إنشاء 145 مستوطنة يهودية بالإضافة إلى مئة من البؤر الاستيطانية (والبنى التحتية المرافقة لها)، حيث استقر نحو نصف مليون مستوطن يهودي.

كان الهدف بعيد المدى هو السيطرة على مساحات كبيرة قدر الإمكان من الأرض والمياه في فلسطين. لم يكن ضم الضفة الغربية وقطاع غزة خيارات جديّة أبداً، كون هذا سيؤدي إلى إضافة مليون مواطن غير يهودي ضمن حدود دولة إسرائيل، مما يشكل 30% من مجموع السكان. وبالتالي، كان هذا سيؤدي إلى إضعاف الطابع اليهودي لدولة إسرائيل. علاوة على دخول إسرائيل في صراع مع المجتمع الدولي. وعلى الرغم من حقيقة أن إسرائيل قد تمادت في احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن ردة فعل مجلس الأمن الدولي تجاه ضم القدس الشرقية أوضح أن المجتمع الدولي قد يضع حداً لتصرفات إسرائيل. وأتى تأكيد إدانة المجتمع الدولي بالإجماع ورفضه الاعتراف بالضم بنقل سفارات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من القدس إلى تل أبيب.

كانت نتيجة هذه السياسات أن صادرت إسرائيل 38% من الأراضي في الضفة الغربية و 49% في قطاع غزة في الفترة الواقعة بين عامي 1967 و 1993 (سحبت إسرائيل جيشها ومستوطنيها من قطاع غزة وألغت المصادرة). وفي المستقبل، ونتيجة لبناء الجدار، الذي يبلغ طوله 700 كم والذي بدأ في يونيو/حزيران عام 2002، ستكون إسرائيل قد ضمت في الواقع 10% أخرى من الأراضي في الضفة الغربية، بما في ذلك مواردها المائية.

القيود الإسرائيلية

قبل أن اتضحت الأبعاد الكاملة للتطورات، تم إدخال نظام شامل من التصاريح والتراخيص بموجب أوامر عسكرية. فكان ينبغي تقديم طلب للتصاريح من أجل شراء الأراضي وبناء البيوت وإقامة الأعمال والنقل واستيراد وتصدير البضائع، وهكذا دواليك. غالباً ما كان الشريط الأحمر الذي يأتي مع هذه التصاريح والمعاملات البطيئة من قبل البيروقراطية العسكرية يقلص من الفرص التجارية بشكل كبير. ومع نظام التصاريح، تمتلك قوات الاحتلال الإسرائيلية سلاحاً في اليد تستطيع من خلاله معاقبة الفلسطينيين الذين كانوا يقاومون الاحتلال بأي شكل من الأشكال.

بعد 1967
بعد عام 1967، كانت إسرائيل مسؤولة عن الإهمال الهيكلي في البنى التحتية المادية، مثل أنابيب المياه وشبكات الكهرباء والاتصالات. وينطبق الأمر نفسه على شبكات الطرق. وفي الثمانينات، كان يمكن تمييز أين تقع الحدود بين إسرائيل والضفة الغربية بالضبط على الطريق من تل أبيب إلى رام الله، وذلك من نوعية سطح الطريق والغياب المفاجئ لإنارة الشوارع. وهذه أيضاً مشاريع فلسطينية محرومة. وكان هناك حاجة للتمويل الأجنبي للحفاظ على الخدمات الصحية والتعليمية. وكل هذا في تناقض صارخ مع المبالغ الكبيرة التي كانت إسرائيل تجمعها سنوياً من الضرائب والرسوم التي يدفعها الفلسطينيون.

بعد احتلال فلسطين، أدخلت إسرائيل مباشرة أنظمة لإغلاق أسواقها بشكل أو بآخر أمام المنتجات والبضائع الفلسطينية. وعلى العكس، كان يمكن بيع المنتجات والبضائع الإسرائيلية المدعومة بشكل كبير في فلسطين دون قيود. وكانت النتيجة أن المنتجات الفلسطينية خسرت السوق. وبما أن إسرائيل سيطرت على حدود فلسطين، فقد حصلت بالتالي على السيطرة الكاملة على الاستيراد والتصدير.

وسرعان ما أصبحت فلسطين ثاني أهم سوق بالنسبة لإسرائيل، بعد الولايات المتحدة. فقد كانت 90% من الواردات الفلسطينية تأتي من إسرائيل، وتذهب 70% من منتجات التصدير الفلسطيني إلى إسرائيل (السلع والمنتجات التي لا تنافس المنتجات الإسرائيلية أو التي كان قد أنتجها مقاولون فلسطينيون فرعيون لشركات إسرائيلية). ونظراً إلى أن إيرادات الاستيراد كانت ضعف التصدير في السبعينات والثمانينات، أظهر الميزان التجاري الفلسطيني عجزاً هيكلياً مرتفعاً.

دور العمال الفلسطينيين في إسرائيل

من المفارقات زيادة الناتج الفلسطيني القومي الإجمالي والقوة الشرائية خلال السنوات الأولى من الاحتلال بدلاً من نقصانه، وذلك بمعدل 13% سنوياً خلال الفترة 1968-1972. حدث هذا لعدد من الأسباب. ففي السنة الثانية من الاحتلال، سمحت إسرائيل للفلسطينيين بالعمل في إسرائيل بالفعل – في البداية العمال غير المتعلمين، في مجال البناء خصوصاً، وبعد ذلك للعاملين في قطاعي الصناعة والزراعة. وتم تجنيد القوى العاملة في فلسطين من قبل مكاتب توظيف إسرائيلية. كان سوق العمل الإسرائيلي حريصاً على توظيف عمال فلسطينيين كونهم كانوا مستعدين للعمل بأجور أقل من الإسرائيليين.

ومع ذلك، كسب الفلسطينيون في إسرائيل أكثر من فلسطين (إذا تم توظيفهم في الأساس فعلاً). لكن كان يحظر على العمال الفلسطينيين قضاء الأمسيات أو الليالي في إسرائيل بعد انتهاء العمل. ولم يترك لهم أي خيار سوى الانتقال بين منازلهم ومكان عملهم، والذي كان عملياً، نظراً للمسافات القصيرة بشكل معقول.

سرعان ما ارتفع عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وفق الأرقام الرسمية، من 20,000 عام 1970 إلى 55,000 عام 1972 إلى 89,000 عام 1985، والتي كانت تعادل ما لا يقل عن 36% من السكان الفلسطينيين العاملين. وبالمقابل، لم يشكل العمال الفلسطينيون في فلسطين أبداً أكثر من 7% من سكان إسرائيل. ومع ذلك، يعتقد الخبراء أن العدد الفعلي للعمال الفلسطينيين في إسرائيل لا يقل عن 25% أكثر. تفضل مجموعة كبيرة من العمال الفلسطينيين والموظفين الإسرائيليين القيام بالأعمال خارج القنوات البيروقراطية الرسمية (التحايل على دفع الضرائب). فمنذ البداية، ساهم العمال الفلسطينيون في إسرائيل بالناتج الإجمالي القومي في فلسطين بشكل كبير. وعام 1985، كانت النسبة 22% في الضفة الغربية و 37% في قطاع غزة.

كان هناك سبب آخر لزيادة القوة الشرائية: وهو زيادة عدد العمال الفلسطينيين في دول الخليج بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 والزيادة الكبيرة في عائدات النفط في الدول المنتجة للنفط. وبالتالي زاد تحويلهم للأموال لأسرهم التي تركوها خلفهم نسبياً.

الجسور المفتوحة
بالإضافة إلى ذلك، وبعد احتلال فلسطين مباشرة، بدأت إسرائيل ما يسمى بسياسة الجسور المفتوحة (أي جسور عبر نهر الأردن) لحماية أسواقها من المنتجات الفلسطينية الزراعية. وفي إطار هذه السياسة يمكن للمزارعين الفلسطينيين الاستمرار في تصدير المنتجات إلى الأردن. وهذا ما أوقف الاقتصاد الفلسطيني من الانهيار تماماً. لكن سياسة الجسور المفتوحة خدمت المصالح الإسرائيلية أيضاً. فقد ابتعدت المنتجات الزراعية الفلسطينية الرخيصة عن السوق الإسرائيلية. ومن خلال تقديم متنفس اقتصادي للفلسطينيين، ظلت التوترات السياسية قابلة للتحكم في فترة كانت إسرائيل لا تزال تقوم بتنفيذ توطيد الاحتلال بشكل كامل.

كان التصدير إلى الأردن بالأكثر مقصوراً على المنتجات الزراعية. وانطلاقاً من رغبتها في حماية صناعتها من المنافسة، حافظت الأردن على أنظمة صارمة فيما يتعلق بالمنتجات الأخرى. وعلاوة على ذلك، كانت جامعة الدول العربية قد أعلنت مقاطعة عامة لإسرائيل والأردن، وأرادت منع المنتجات الإسرائيلية من دخول الأسواق العربية عن طريق الباب الخلفي.

نمو دون تطور

لا يعكس زيادة الناتج الإجمالي القومي واقع الاقتصاد الفلسطيني. فقد ترافق النمو بركود في تطور الاقتصاد الفلسطيني، نتيجة التدابير الإسرائيلية التقييدية على الأغلب. استمرت الشركات العائلية الصغيرة في قطاعي الصناعة والتجارة في السيطرة على الاقتصاد، باستخدام تقنيات بسيطة. وكانت مساهمتها في الناتج الإجمالي القومي عام 1992 في نفس مستوى عام 1967. وكان القطاع الوحيد الذي يشهد نمواً كبيراً هو قطاع البناء، كون العديد من العمال المهاجرين – جزئياً بسبب قلة فرص العمل – استثمروا في “البلوك والاسمنت” (المنازل). وبكلمات أخرى، كان هناك نمو اقتصادي بالفعل، ولكن بقيت التنمية الاقتصادية غائبة. وهذا ما زاد من ضعف الاقتصاد الفلسطيني.

على مر السنين، تم تعويض العجز الكبير في الميزان التجاري من الإيرادات المكتسبة من مكان آخر (إسرائيل ودول الخليج) – وليس بالوسائل المالية الناتجة عن الاقتصاد الفلسطيني. وقد ساعدت هذه الإيرادات في نواح أخرى أيضاً على إبقاء الاقتصاد الفلسطيني على قدميه.

الانحدار
اتضح ضعف الاقتصاد في فلسطين بشكل مؤلم في النصف الثاني من الثمانينات. نتيجة الانخفاض الكبير في عائدات النفط، انخفضت فرص عمل العمال الفلسطينيين في دول الخليج. وبالطبع، كان للانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987 أثراً سلبياً على الاقتصاد الفلسطيني. ومن الجدير بالذكر أن عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل بقي مستقراً بشكل أو بآخر خلال سنوات الانتفاضة (1987-1993). لكن قدرتهم الشرائية انخفضت نتيجة التضخم المفرط الذي ضرب الاقتصاد الإسرائيلي في ذلك الوقت. غير أن الآثار بعيدة المدى بشكل أكبر كانت طرد حوالي 200,000 عامل فلسطيني من دول الخليج عام 1991، نتيجة موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المؤيد للعراق خلال أزمة الكويت.

نتيجة لكل هذه التطورات، فقد الاقتصاد في فلسطين توازنه بشكل كامل عشية عملية أوسلو.

بعد اتفاق أوسلو

بعد أن اكتسبت إسرائيل السيطرة الكاملة على الاقتصاد في فلسطين بعد عام 1967 وإخضاعه كلياً للاقتصاد الإسرائيلي، نمت آمال وتوقعات الكثيرين بأن تضع عملية أوسلو حداً للاستعباد، ووضع أساس دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة، قابلة للحياة (اقتصادياً) في فلسطين. وذلك كان دون جدوى. وبدلاً من ذلك، استمر الاستعباد في ثوب جديد.

بروتوكول العلاقات الاقتصادية

تم وضع الأساس في بروتوكول العلاقات الاقتصادية في 29 أبريل/نيسان عام 1994، كما دعي “بروتوكول باريس” (على اسم المكان الذي حدثت فيه المفاوضات). وتمّ فيه تنظيم العلاقات المالية والنقدية والتجارية بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية طوال فترة أوسلو المؤقتة (1994-1999). واستناداً إلى البروتوكول، احتفظت إسرائيل بالسيطرة الكاملة على التجارة الفلسطينية وعلى جمع الضرائب. وكان الفرق بأن الضرائب والجبايات لن تستمر بالتدفق إلى الخزينة الإسرائيلية، بل تستلمها السلطة الوطنية الفلسطينية. وبهذه الإيرادات يمكن تمويل جزء كبير من نفقات السلطة الوطنية الفلسطينية. وهذا ما أعطى إسرائيل أيضاً وسيلة إلزام قوية فيما يتعلق بالسلطة الوطنية الفلسطينية. وقد كان هذا مجالاً واحداً فقط استمرت إسرائيل من خلاله بالتحكم، فيما بقيت دائرة عمل منظمة التحرير الفلسطينية صغيرة.

قيود إضافية
علاوة على ذلك، بدأت إسرائيل، في المرحلة الأخيرة من الانتفاضة الأولى، بفرض قيود على الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، والذين يريدون الدخول إلى إسرائيل. واعتباراً من عام 1993 فصاعداً، احتاج العمال الفلسطينيون إلى الحصول على تصريح ليتمكنوا من العمل في إسرائيل. ومنذ منتصف التسعينات، كان يمكن لفلسطينيين آخرين فقط دخول إسرائيل بتصريح يقدم سلفاً.

وبعد ذلك بقليل، صدر مرسوم يقضي بأن لا يسمح للمركبات المسجلة في فلسطين بالدخول إلى إسرائيل. وتم تقييد سفر الركاب وحركة البضائع داخل الضفة الغربية و قطاع غزة بشدة لسنوات عديدة عن طريق شبكة من الحواجز التي يمكن عبورها من قبل أصحاب التصاريح فقط. تم فرض هذه التدابير بسبب الوضع الأمني المتدهور، وإنما أيضاً كوسيلة للضغط على الفلسطينيين في المفاوضات القريبة المقتضبة للغاية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الوطنية الفلسطينية حول المزيد من تفاصيل اتفاقيات أوسلو.

النتيجة
كانت النتيجة انخفاضاً حاداً في عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل في فترة أوسلو المؤقتة، من 116,000 عام 1992 إلى 28,000 عام 1996. وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، تراجعت أعدادهم أكثر، وتم ملء فراغهم الآن بعمال من أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا. وبالنتيجة، انخفضت مساهمة إيرادات العمال الفلسطينيين في إسرائيل في الناتج القومي الإجمالي لفلسطين في نفس الفترة، من 25% إلى 6%. وارتفع معدل البطالة نسبياً. وفي نفس الوقت، عانى الاقتصاد في فلسطين بشدة من الإغلاق الطويل الأمد لفلسطين في فترات تصاعد التوترات السياسية، على سبيل المثال بعد اشتباكات عنيفة أو تفجيرات (انتحارية). وينطبق الأمر نفسه على إعادة الاحتلال بشكل مؤقت لبعض المدن الكبيرة في الضفة الغربية عام 2002، والذي أدى إلى دمار واسع للبنى التحتية المحسنة حديثاً فقط.

لعقود، قدم المجتمع الدولي، عن طريق منظمة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، المساعدات للاجئين الفلسطينيين في فلسطين. ومع عملية أوسلو، أصبح بالإمكان الآن تقديم المساعدات للفلسطينيين بطرق أخرى غير منظمة الأونروا. وقد تم فرض ذلك جزئياً من قبل المصلحة الذاتية الواضحة، كما كان من المهم السيطرة على أكبر مصدر توتر في العالم. ركزت المساعدات بشكل أساسي على إعداد الجهاز الإداري للسلطة الوطنية الفلسطينية وتحسين البنية التحتية المهملة هيكلياً.

من أجل وضع الاقتصاد في فلسطين على المسار الصحيح، تم توجيه نداء إلى الخدمات والمساعدات التي تقدمها مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي و البنك الدولي منذ عام 1994. وقد دعمت هذه المؤسسات الحكومة الصغيرة والدور المحوري للقطاع الخاص في تعزيز النمو الاقتصادي. غير أن هذا لم يكن مجدياً على مختلف المستويات نتيجة الوضع العسير في فلسطين. زادت فرص العمل بشكل كبير داخل الإدارة (ما يصل إلى 25% من السكان العاملين) – من بينها دوائر الشرطة والأمن – من أجل استيعاب الزيادة الكبيرة في نسبة البطالة كنتيجة خسارة فرص العمل في إسرائيل.

بينما في البداية كان التركيز على التنمية بشكل أساسي، وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية وآثارها الوخيمة على اقتصاد فلسطين، تحول التركيز إلى الإغاثة. انطبق هذا بشكل خاص على الفلسطينيين في قطاع غزة بعد فوز حماس في انتخابات عام 2006. وبعد ذلك، كان على إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية الجديدة برئاسة حماس التصرف دون مساهمة عائدات الضرائب والرسوم الإسرائيلية، وكذلك مساعدات الدول الغربية. وبعد تولي حماس السلطة في قطاع غزة منتصف عام 2007، تم فرض حصار عام آخر، وتبعه العملية العسكرية الإسرائيلية المدمرة في نهاية 2008 وبداية 2009.

تدفقت جميع الصناديق الغربية منذ ذلك الحين باتجاه فتح/السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية من أجل الحفاظ على الحكومة (غير الدستورية) بقيادة رئيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولنفس السبب، سمحت إسرائيل مرة أخرى للعمال الفلسطينيين من الضفة الغربية بدخول إسرائيل.

التوازن

أصبح الاقتصاد في فلسطين ألعوبة القوى التي ليس للفلسطينيين أية سيطرة عليها. وغياب إدارة فلسطينية يمكنها توجيه سياستها الاقتصادية بشكل مستقل وتضمن مصالحها الاقتصادية. تتمسك حكومة فتح/السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية بموقفها لمجرد الدعم المالي الكبير من الدول العربية والغربية خصوصاً. ويدعم حكومة حماس في قطاع غزة الداعمين الماليين في دول الخليج والمنظمات غير الحكومية في العالم العربي والإسلامي.

العديد من المؤشرات الاقتصادية معاكسة. ففي عام 2007، كانت أرقام الإنتاج في القطاع الزراعي أخفض بـ 55% من عام 1999.وفي نفس الفترة، انخفض الإنتاج التحويلية بنسبة 20% وتقلص قطاع البناء بنسبة 66%. في تقرير عام 2012، أشارت الأمم المتحدة إلى أن الإنتاج الزراعي انخفض بنحو 20-33% منذ فرض إسرائيل حظراً أمنياً على الأسمدة المستوردة. انخفض الإنتاج الزراعي الإجمالي من 2047 مليون دولار عام 2008 إلى 1445 مليون دولار عام 2011، وفق منظمة الأغدية والزراعة للأمم المتحدة. عام 2012، كانت نسبة البطالة في الضفة الغربية 18,3% و 38.8% في قطاع غزة. عام 2011، كان 17,8% من سكان الضفة الغربية و 38,8% من سكان قطاع غزة يعيشون في فقر (مكتب الإحصاء الفلسطيني).

تم تقويض الجدوى الاقتصادية في الضفة الغربية بشكل خطير نتيجة مصادرة فلسطين وبناء المستوطنات اليهودية والبنية التحتية المرافقة لها، وكل هذه مجتمعة جزأت الضفة الغربية، مما جعل السفر من مكان إلى آخر يستغرق وقتاً طويلاً. وفي قطاع غزة، تم التحكم في صيد السمك بمنع الصيادين من الذهاب بعيداً في البحر الأبيض المتوسط.

ذكر تقرير للبنك الدولي نشر في تشرين الأول/أكتوبر 2013 أن القيود الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية (المنطقة ج) نتج عنها خسائر اقتصادية قدرها 3,4 مليار دولار.

انخفضت مساهمة الزراعة في الضفة الغربية على الاقتصاد الفلسطيني. في منتصف السبعينات، ساهمت الزراعة بأكثر من 14% من الناتج المحلي الإجمالي (5,1% عام 2011). وبسبب القيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي والمياه، ومعظمها في المنطقة ج، لا تتم زراعة مساحات واسعة من الأراضي الخصبة كما يتم تقييد تطوير البنية التحتية اللازمة للزراعة التسويقية. في نفس الوقت، تم توسيع الأراضي الزراعية المزروعة من قبل المستوطنات اليهودية بنسبة 35% منذ عام 1997 وحوالي 93،000 دونم عام 2012.

كما عانى قطاع البناء الفلسطيني من الأراضي المتوفرة للبناء يقتصر إلى حد كبير على منطقتي أ و ب، حيث ترتفع أسعار الأراضي والمباني والبنية التحتية المادية. وفق تقديرات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، تسمح إسرائيل للفلسطينيين بالبناء بحرية في أقل من 1% من المنطقة ج، ومعظمها مبني حالياً. علاوة على ذلك، نادراً ما يحصل الفلسطينيون على تراخيص.

أخيراً، يعرقل الوضع السياسي والأمني الهش والقيود الإسرائيلية المفروضة على الحركة وتطوير البنية التحتية تطوير المقومات السياحية في فلسطين. فالاستثمارات الخاصة والعامة في مجال السياحة متراجعة.

وفق الخبيرة السياسية الأمريكية سارة روي – مؤلفة دراستين هامتين حول قطاع غزة – لا يمكن تصنيف العلاقة بين إسرائيل وفلسطين بالمتخلفة، وإنما بالبعيدة عن التطور. الطرف المهيمِن (إسرائيل) لا يعطل اقتصاد الطرف المهيمَن عليه فقط (فلسطين)، وإنما أيضاً يقوضه كلياً ويحرمه من قدراته الإنتاجية على تنفيذ تحول منظم بشكل منطقي وإصلاحات هادفة.

ويعاني الاقتصاد الفلسطيني من حالة الجمود الراهنة على مستوى مفاوضات السلام مع إسرائيل والمصالحة بين حركتي “حماس” و”فتح”. كما لعب تراجع دعم المانحين دوراً كبيراً في خلق وضع اقتصادي غير مستدام، خاصةً في ظل عدم كفاية الاستثمارات الخاصة وضعف ثقة المستثمرين.
كما أدت الحرب التي شهدها قطاع غزة في عام 2014 إلى وقوع أزمة إنسانية واقتصادية كبيرة، وعلى الرغم من نمو اقتصاد القطاع بنسبة 7.3% في عام 2016 نتيجة نشاطات البناء والتعمير، إلا أن الآثار المترتبة على حرب 2014 لا يمكن تجاوزها بحسب البنك الدولي حتى عام 2018.
وما تزال القيود التي تفرضها إسرائيل تحول دون ظهور استثمارات القطاع الخاص الكفيلة بتحفيز النمو المستدام.
ووصل الناتج الإجمالي المحلي الفلسطيني في عام 2015 إلى 12.68 مليار دولار أمريكي، مقارنةً مع 12.72 و12.48 مليار دولار في عامي 2014 و2013. ومن المتوقع أن يشهد الناتج الإجمالي المحلي، بحسب صندوق النقد الدولي، نمواً بنسبة 3.5% في عام 2017، مقارنةً مع 3.3% و3.5% في عامي 2016 و2015. وبقيت نسبة التخضم عند حاجز 1.2% في عام 2017 نتيجة ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالشيقل الإسرائيلي وهبوط أسعار الوقود والغذاء العالمية.
ويشير البنك الدولي إلى آفاق المستقبل الاقتصادي الفلسطيني مثيرة للقلق، في ظل احتمال وقوع صراعات مسلحة وانخفاض مساندة الجهات المانحة.

Advertisement
Fanack Water Palestine