وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

القضية الفلسطينية في السينما الفلسطينية

القضية الفلسطينية السينما الفلسطينية
صورة تم التقاطها يوم ٣٠ مايو ٢٠٠٠ للمخرجة اللبنانية من أصول فلسطينية مي المصري وهي تقوم بتصوير مقاطع من فيلمها الجديد “كي لا ننسى” ببلدة الضهيرة الحدودية. (ELECTRONIC IMAGE) RAMZI HAIDAR / AFP

نبيل محمد

المقدمة

كغيرها من سينمات العالم العربي، لا يمكن تتبع أرشيف السينما الفلسطينية في بداياتها، أي في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إلا من خلال الأرشيف المطبوع. هذا الأرشيف تحدّث عن بدايات السينما في فلسطين التي يُنسب إليها فضلٌ كبير في إطلاق عجلة الإنتاج السينمائي في بلدان عربية عدّة، حيث عمل صنّاع سينما فلسطينيون في الأعمال الأولى للسينما في مصر وفي سوريا.

ويعتبر الأخوان بدر وإبراهيم لاما (الأعمى) من أوائل صناع السينما في العالم العربي. وأنتج الأخوان لاما، وهما فلسطينيان ولدا في تشيلي وعادا إلى مصر، أول أفلامها سنة [1]1926 تحت اسم قبلة في الصحراء. وبحسب غالبية مراجع السينما العربية، فقد كان هذا الفيلم أول الأفلام الروائية الطويلة على المستوى العربي. وقدّم الأخوان لاما بعد ذلك ما يزيد عن 60 فيلماً بين قصير وطويل، من خلال شركة الإنتاج التي أسساها في مصر باسم كوندور فيلم.

أفلام الأخوين لاما لم يكن لها ارتباط بفلسطين، بل كانت مصرية وعربية تعنى بالتراث والمجتمع. لذلك، عند الحديث عن تاريخ السينما في فلسطين، لا يتم ذكر الأخوين لاما إلا كمؤسسين في السينما العربية بشكل عام، تعود أصولهما لفلسطين.

أما السينما الفلسطينية فقد بدأت فعلياً مع إبراهيم حسن سرحان، من خلال فيلم تسجيلي قصير صوّره سنة 1935، رصد فيه خلال 20 دقيقة زيارة ولي العهد السعودي سعود بن عبد العزيز لفلسطين. كما صنع سرحان عدة أفلام أخرى تسجيلية. وبعد نكبة 1948، أصبح لاجئاً يعمل في السينما بالأردن. ووفق لقاء أجراه معه السينمائي العراقي قاسم حول، انتقل سرحان إلى مخيم شاتيلا في لبنان وعمل هناك كسمكري.

سينما فلسطين بعد 1948

كان عنوان السينما الفلسطينية بعد نكبة 1948 هو القضية الفلسطينية. فمنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، يندر أن يُنْتَج فيلمٌ فلسطيني لا تكون القضية الفلسطينية موضوعه الأساسي. ولم تكن السينما بعد الاحتلال مجرّد فنّ يتطوّر بتطور الأدوات وبوجود الهواة والمحترفين، بل كانت ضرورة لتوثيق الحدث، وللتوظيف في المواجهة التي ستمر بمحطات كثيرة. وكانت السينما مواكبة لمجمل هذه المحطات، متأثرةً بها.

وفي الوقت الذي تنامت فيه أهمية قضية اللاجئين، باتت المخيمات وقضية اللجوء مكوناً أساسياً من السينما الفلسطينية. كما لعبت المعارك الجزء الأهم من الحراك السينمائي الفلسطيني أثناء الثورات المسلحة واشتداد العمليات العسكرية.

واقتنع بعض صنّاع السينما الفلسطينية بوجود لغة سينمائية أخرى قد تكون أشد تأثيراً وأكثر قابلية للحضور عالمياً. هذه اللغة كانت لغة خالية من الدم والرصاص أحياناً. وعلى هذا النحو، تطورت السينما الفلسطينية لتصبح سينما فكرية فلسفية.

كلّ تلك المضامين والأفكار التي حملتها السينما الفلسطينية لا يمكن تتبعها خلال السنوات الأولى ما بعد النكبة. ويعود ذلك بالدرجة الأساسية إلى تهجير صنّاع السينما الفلسطينية الأوائل إثر النكبة. ووجد السينمائيون الفلسطينيون أنفسهم إما في دول الجوار الفلسطيني مثل الأردن ولبنان وسوريا كلاجئين، أو في دول أجنبية. وعليه، لم يكن بإمكانهم صناعة الأفلام في ظروفهم الجديدة، بعد أن خسروا أدواتهم وشركاتهم في الداخل.

وكان من الصعوبة بمكان صناعة أفلام في الدول التي تواجد فيها هؤلاء السينمائيون دون التأثر بالتوجه السياسي لتلك الدول. وعلى سبيل المثال، فإنّ فيلم وطني حبيبي المنتج سنة 1964 في الأردن، للمخرج الفلسطيني عبد الله كعوش، قدّم القضية الفلسطينية كصراع بين الجيش الأردني والجيش الإسرائيلي[2]. ولقي الفيلم انتقادات كثيرة، لدرجة أن الناقد والمؤرّج السينمائي حسان أبو غنيمة وصفه بأنه “نكتة”.

سينما الثورة الفلسطينية

القضية الفلسطينية السينما الفلسطينية
صورة تم التقاطها عام ١٩٧٦ على هامش مهرجان طشقند السينمائي الدولي الرابع للدول الآسيوية والإفريقية واللاتينية. وحصل صانع الأفلام الفلسطيني سمير نمر على الجائزة وشهادة لفيلم “كفر شوبا” الوثائقي. المصدر: A. Varfolomeev / Sputnik / Sputnik via AFP.

سمّيت سينما ما بعد إعلان حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في مطلع عام 1965 باسم “سينما الثورة الفلسطينية”. واشتهرت مجموعة من المصورين والمخرجين الذين أخذوا على عاتقهم إنتاج مواد فيلمية مواكبة للثورة. وأسس هؤلاء “وحدة أفلام فلسطين” التي قدمت مجموعة أفلام رصدت الكفاح الوطني في عدة مراحل من تجربتها.

وتتضمن قائمة الأفلام فيلم لا للحل السلمي الذي أنجزه مصطفى أبو علي، وصلاح أبو هنّود، وهاني جوهرية، وسُلافة مرسال، في عام 1968، بالإضافة إلى فيلم “بالروح بالدم المنتج سنة 1971 لمصطفى أبو علي الذي لقّب بـ “مؤسس سينما الثورة الفلسطينية”. وكانت الأفلام التي قدمتها الوحدة أفلاماً تسجيلية ترصد الحراك المسلح ضد الاحتلال، ومعاناة الفلسطينيين في الشتات.

وبصورة مماثلة لما قامت به حركة فتح، فقد سعت أغلب التشكيلات الثورية والسياسية في فلسطين لتأسيس وحدات إعلامية وسينمائية تُعنى بإنتاج الأفلام الثورية. وأنتجت الجبهة الشعبية والقيادة العامة والجبهة الديمقراطية عشرات الأفلام، لا سيّما في عقدي السبعينات والثمانينات.

وعاشت أغلب السينما الفلسطينية، بشقّها الروائي بالدرجة الأساسية، في أحضان الدول العربية المجاورة. لذا، كان ممثلوها ومخرجوها وكتّابها أحياناً غير فلسطينيين. وكان من الصعب حصر ما هو فيلم فلسطيني، وما هو فيلم عربي يتحدّث عن القضية الفلسطينية متضناً كوادر فلسطينية وكوادر غير فلسطينية. إلا أنّ هذه الأفلام تناولت في مختلف أشكال حضورها موضوعات محورها مقاومة المحتل، والإصرار على حقّ العودة، وتصوير مأساوية حياة اللاجئ في مخيمات الشتات.

لكن السينما الفلسطينية طوّرت أدواتها وموضوعاتها، وخرجت من المفاهيم المكرَّسة والمستهلكة. وباتت الأفلام الفلسطينية تحظى بحضورٍ عالمي. وانطلقت هذه السينما منذ عقد التسعينات إلى خارج الجغرافيا العربية التي لم تكن لتغادرها خلال العقود السابقة.

السينما الفلسطينية الحديثة

برزت أسماء صنّاع سينما فلسطينيين من أولئك الذين لجؤوا إلى دول أوروبية ودرسوا السينما هناك، وبدؤوا بالعمل على مشاريعهم السينمائية. وحاول هؤلاء الخروج بمشاريعهم عن المألوف في السينما الفلسطينية الثورية التقليدية إلى سينما جديدة كلياً. وكان بعض هذه الأفلام مستقلٌ بإنتاجه، وبعضها الآخر مدعومٌ من قبل مؤسسات ثقافية وفنية عالمية.

تجربة ميشيل خليفي

يعتبر ميشيل خليفي أحد أهم صناع السينما المستقلة الفلسطينيين. ويكنّى خليفي في أواسط فنية وإعلامية فلسطينية برائد السينما المستقلة. وبدأت تجربته بعد دراسته للمسرح في بلجيكا، حيث أطلق أوّل أفلامه الذاكرة الخصبة عام 1980. ويتناول هذا الفيلم التسجيلي قصة سيدتين فلسطينيتين تقاومان الاحتلال من خلال التمسّك بالأرض. ونال الفيلم تقييماً جيداً في الأواسط النقديّة.

وقدّم خليفي فيلم عرس الجليل عام 1987، وهو فيلمٌ روائي يروي قصّة عرس في قرية فلسطينية يشارك فيها جنود إسرائيليّون، كشرط منهم مقابل إخراج الجيش من البلدة وإلغاء حالة الطوارئ ريثما تتم إقامة العرس. وانتشر الفيلم على نطاقٍ واسع، وهو ما أتاح له الفوز بجوائز عالمية. ومن الجوائز التي حصل عليها هذا الفيلم ذهبية مهرجان سان سبستيان الدولي، وجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية في مهرجان كان عام 1987 والتانيت الذهبي لمهرجان قرطاج في العام نفسه.

وفي فيلم نشيد الحجر من إنتاج عام 1990، حضرت القضية من خلال نماذج متعددة من الشخصيات الفلسطينية، بين قادم من الخارج ومتمسّك بالأرض وخارج من المعتقل. ونرى في الفيلم أنّ ما يجمع هؤلاء جميعاً هو قضيّة واحدة على أرضهم المسلوبة. ونال الفيلم أيضاً تقديراً في الأواسط السينمائية حينها.

واستمر خليفي بإنتاج الأفلام حتى أنتج فيلمه “زنديق” عام 2009 والذي يتحدث عن مدينة الناصرة مسقط رأس مخرجه. ويدور الفيلم في فلك الأفكار ذاتها التي قدمها في أفلامه السابقة من التمسك بالأرض إلى حق العودة. وحاز الفيلم على ذهبية أحسن فيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان دبي السينمائي 2009.

تجربة إيليا سليمان

القضية الفلسطينية السينما الفلسطينية
صورة تم التقاطها يوم ٢٥ مايو ٢٠١٩ بمدينة كان الفرنسية للمخرج والممثل الفلسطيني إيليا سليمان أثناء حضوره لمؤتمر صحفي تم عقده حول فيلم “” وذلك على هامش النسخة الثانية والسبعين من مهرجان كان السينمائي. المصدر: Laurent EMMANUEL / AFP.

تعتبر أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان حالة خاصة مختلفة عن كلّ ما قدّمته فلسطين تاريخياً من أفلام. وهنا ليس القصد الجودة، إنّما الأسلوب الخاص الذي اعتمده سليمان ولم يكن مألوفاً لدى غالبية المخرجين الفلسطينيين والعرب. ويتميز أسلوب سليمان بالرمزي الهزلي. وفي الوقت الذي جرت العادة فيه على أن تحمل الصورة رسالة أفلام سليمان، فقد جاء ذلك على حساب اللغة المنطوقة. ويحاول سليمان تقديم كلّ ما يمكن تقديمه بطريقة كوميدية خفيفة، حتى المآسي.

إيليا سليمان من مواليد الناصرة، واتّهم في سني شبابه الأولى بالانتماء لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما دفع الإسرائيليون لاعتقاله. وبعدها، تنقل سليمان بين عدة دول أوربية، ثم استقر في نيويورك، متنقلاً بينها وبين فلسطين التي كان يعود إليها دائماً ليصوّر وينتج أفلامه.

ومع فيلمه الأول الذي انتجه عام 1990 تحت اسم مقدمة لنهاية جدال، بدأ اسم سليمان يتردد في المهرجانات الدولية. فالفيلم الذي يقدّم صورة فلسطين في الإعلام الغربي وتناقضها مع الحياة الحقيقية للفلسطينيين، نال جائزة أفضل فيلم تجريبي في مهرجان أتلانتا السينمائي.

في عام 2002، قدّم سليمان فيلمه الروائي الذي سيكون علامة فارقة في تاريخه وتاريخ السينما الفلسطينية، وهو يد إلهية. ويروي الفيلم قصّة حبّ تحت وطأة الاحتلال، والذي نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي وجائزة أفضل فيلم من الاتحاد الدولي لنقاد السينما، ومجموعة من الجوائز العالمية الأخرى.

وجاء سليمان في عام 2009 بفيلم الزمن المتبقي. ويؤرخ الفيلم للقضية الفلسطينية بأسلوب روائي خفيف، وبكوميديا سوداء. ورشّح الفيلم لجوائز مهرجاني كان وتورينتو للسينما. فيما لاقى فيلمه الثالث لا بدّ أنها الجنة المنتج عام 2019 التقدير في عشرات صالات العرض والمهرجانات حول العالم. وحاز الفيلم على جائزة الاتحاد الدولي للنقاد لأفضل فيلم في مهرجان كان.

وتكاد تخلو أفلام إيليا سليمان كليّا من الأسلحة والعنف والمشاهد الدمويّة التي يمتلئ بها واقع الحياة في فلسطين. ويعد هذا التفصيل من التفاصيل التي جعلت أفلامه مميزة ووضعتها في الوقت نفسه في مرمى النقد. فهذا الاختلاف واللغة الكوميدية والترميز، لم يكن مستحبّاً لدى كثيرين ممّن عايشوا القضية الفلسطينية وقاسوا في حياتهم بسبب الاحتلال. لكن أسلوب سليمان الخاص نقل القضية إلى شاشات عالمية عدة مرات، وسمح للمشاهد برؤية فلسطين بعين أخرى.

تجربة هاني أبو أسعد

القضية الفلسطينية السينما الفلسطينية
صورة تم التقاطها يوم ١٩ فبراير ٢٠٠٥ للمخرج الفلسطيني المولد هاني أبو أسعد وهو يقدّم جائزة الملاك الأزرق التي حصل عليها في النسخة الخامس والخمسين من مهرجان برلين السينمائي. وفاز هاني أبو أسعد بجائزة أفضل فيلم أوروبا عن فيلمه “الجنّة الآن”. المصدر: MICHAEL KAPPELER / DDP / ddp images/AFP.

انشغلت أفلام الفلسطيني الهولندي هاني أبو أسعد بمجموعة من القضايا الإشكالية في فلسطين، وأهمّها قضية التخابر مع إسرائيل، وقضية العمل الفدائي. وتميّزت غالبية أفلامه بسمة الاشتغال العميق في السيناريو، وتركيزه على الحوارات الطويلة ذات المغزى والرمز.

وأنتج أبو أسعد أشهر أفلامه الجنة الآن عام 2006. ونال هذا الفيلم ذهبية أفضل فيلم أجنبي في الغولدن غلوب، ليكون الفيلم العربي الأول والوحيد الذي ينال هذه الجائزة تاريخياً. كما ترشّح عن الفئة نفسها إلى جائزة الأوسكار. ونال الفيلم جائزة أفضل فيلم في هولندا في سنة إنتاجه.
ويحكي فيلم عمر المنتج عام 2013 قصة حب يفصل بين طرفيها الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل. وحاز الفيلم على تقدير كبير، خاصة وأن غالبية كوادره كانت من فلسطينيي الداخل.

ونال آخر أفلامه صالون هدى المنتج سنة 2021 انتقادات شديدة من قبل جهات رسمية وشعبية فلسطينية، بسبب مشهد لامرأة عارية يمر في الفيلم. وتعكس هذه الانتقادات راهن السينما الفلسطينية التي لم تعد تتبع رغبات الجمهور ومنظمات المقاومة فقط، وإنما باتت في بعض الأماكن على خلاف معها. وتلقى بعض هذه الأفلام انتقادات من الجمهور الفلسطيني في بعض الأماكن أكثر مما تلقى من الإسرائيليين.

وفي ضوء ما سبق، فإن السينما الفلسطينية لم تعد سينما تابعة لنظرية ثابتة غير مسموح المساس بها، وإنما باتت سينما مفتوحة قادرة على تقبّل الأفكار وتوظيف الأدوات. هذا الأمر ضمن حضور السينما الفلسطينية على المستوى العالمي. كما أنه أخرجها من النطاق المحلي الضيق الذي سلبها عبر عشرات السنوات قدرتها على مخاطبة غير الناطقين بالعربية.

 

[1]  سعد الدين توفيق – قصة السينما في مصر – العدد 221 – دار الهلال – 1969 – مصر.

[2]  بشار إبراهيم – فلسطين في السينما العربية – وزارة الثقافة السورية – 2005 – دمشق.

Advertisement
Fanack Water Palestine