وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المقامات العراقية: إرثٌ موسيقي غارقٌ في أحزان العراق

تعتبر المقامات العراقية من أعظم التعابير الثقافية التي تعبّر عن المكنون المجتمعي والتاريخي والفني للشعب العراقي.

المقامات العراقية
صورة تم التقاطها يوم 30 مايو 2011 لمطرب المقام العراقي حسين العظامي أثناء غنائه بصحبة فرقته الموسيقية التقليدية في دار الأوبرا بالعاصمة السورية دمشق. المصدر: SYRIAN OPERA HOUSE / AFP.

حسين علي الزعبي

تعتبر المقامات العراقية من أعظم التعابير الثقافية التي تعبّر عن المكنون المجتمعي والتاريخي والفني للشعب العراقي. ومن ضمن التراث الموسيقي الباهر للعراق، تحمل هذه المقامات في أنغامها ومقاماتها عبقًا تاريخيًا يرتبط بتجربة شعبٍ مرهقٍ بالتحديات والأحداث التي شهدها العراق عبر العصور.

مقامات وأدوات أساسية

“صنع بسحرك” عبارة من ثمانية حروف تختصر أسماء ثمانية مقامات رئيسية في الموسيقى العربية. والمقام في أشهر تعريفاته هو عبارةٌ عن تتالٍ لعلامات موسيقية وفق أبعادٍ معينة وقواعد موضوعة لتصنيف اللحن الموسيقي، الأمر الذي يسهل تعامل العازف مع الآلة وبالتالي مع المقياس الموسيقي.

المقامات الثمانية التي أجمع الموسيقيون الشرقيون على اعتبارها المقامات الرئيسية هي: الصبا، والنهاوند، والعجم، والبيات، والسيكا، والحجاز، والراست، والكرد. وبطبيعة الحال، فإن هذه التسميات لها علاقة بطبيعة العلامات الموسيقية المعتمدة والمشاعر التي تنتاب المستمع بالإضافة إلى المكان الجغرافي الذي ينتمي إليه هذا المقام أو ذاك.

إلا أن العراق الذي أوجد آلة العود، الآلة الأولى في الموسيقى العربية، أوجد أيضاً مقاماته الخاصة المستندة في وجودها إلى الموروث الديني والاجتماعي بشكل رئيسي. ويتطلب تأدية موسيقى المقامات العراقي حضور آلات موسيقية بعينها، وهي السنطور والجوزة والرق.

ويشبه البعض السنطور بآلة القانون المعروفة. بيد أنّ حضور هذه الآلة في العراق يعود إلى أيام الآشوريين والبابليين. وتحوي هذه الآلة 76 وتراً، بحيث يتم تجميع كلّ أربعة أوتار في حزمةٍ واحدة لها نفس الصوت. وتتم صناعة بعض الأوتار من الحديد، في حين تكون بعض الأوتار الأخرى من البرونز والنحاس.

وتعد أيضاً الجوزة من الآلات الوترية ذات الصوت المميز المشابه لصوت آلة الكمان. وتجري صناعة هذه الآلة من غلاف جوز الهند ويتواجد فيها أربعة أوتار. أما آلة الرق، فهي آلة الإيقاع الرئيسية في المقامات العراقية.

دين وقومية وجغرافيا

يحصي الباحثون عدداً كبيراً من المقامات العراقية، إذ يتجاوز عددها الستين مقاما. ومن هذه المقامات ما هو رئيسي ومنها ما هو فرعي. والمقامات الرئيسية، بحسب رئيس اتحاد الموسيقيين العراقيين في أوروبا الفنان وسام العزاوي، سبعة مقامات هي: الرست، والبيات، والسيكاه، والحجاز ديوان، والصبا، والعشيران عجم، والحُسيني.

وبحسب عبد الوهاب بلال، أستاذ تاريخ الموسيقى العربية السابق في معهد الفنون الجميلة في بغداد، فإن المقامات العراقية الفرعية متعددة. ومنها الإبراهيمي، والجبوري، والمحمودي، والناري، واللامي، وكركوك، والباجلان، والحويزاوي، والقزاز، والحجاز كار كرد، والعريبون عرب، والعشاق، وأرواح.

ومن خلال نظرة على أسماء هذه المقامات، نجد أنها ترتبط بعشائر بعينها، مثل مقام الجبوري الذي يستخدم بكثرة في المواويل. وتعود تسميته لعشيرة الجبور، وهي إحدى أكبر عشائر العراق. وينسب مقام اللامي، الذي يستند على مقام الكرد وهو في الأصل نغم، إلى قبيلة بني لام البدوية في العراق. وكان يستعمله الحداة في رعي الإبل. ويعتبر هذا المقام الأكثر منافسةً لمقام الصبا في نبرته الحزينة. ولهذا، يقول خبراء المقام أنّ العراقيين أبدعوا في هذا المقام، وهو مقامٌ “بكائي” جراء الاستخدام الكثير للعُرب الصوتية والإرجاع الصوتي. وتعدّ العُرب ذبذباتٌ صوتية يستخدمها المؤدي لضخ المزيد من مشاعر الحزن.

وتنسب بعض المقامات العراقية الفرعية إلى المناطق التي تنحدر بالأصل منها. ومن هذه المقامات مقام كركوك نسبة لمدينة كركوك. كما أن بعض المقالات ترتبط بالقومية، فمقام الكار كرد ينسب إلى الكرد، أما مقام العريبون عرب، فيعود بالأصل إلى العرب.

المقامات العراقية منها ما كان يغنى بالشعر العربي الفصيح. ومن هذه المقامات الرست، والبيات، والسيكاه، والحجاز ديوان، والصبا، والحُسيني، والعجم عشيران. كما تضم القائمة مقامات البنجكاه، والأوج، والخنابات، والنوى أثر، والمنصوري، والعريبون عجم، والقورْيَات، والبَشيري، والتفليس، والجمال، والنوروز عجم، والأورفة، والدشت، والحويزاوي. في المقابل، فإن بعض المقامات تشتهر بغنائها بمرافقة الشعر الشعبي العراقي. ومن هذه المقامات الإبراهيمي، والبهيرزاوي، والمحمودي، والناري، والمكابل، والجبوري، والشرقي رست، والشرقي دوكاه، والحليلاوي، والباجلان.

عشيران عجم

يلاحظ أنّ المقامات الفرعية العراقية أغرقت في محليتها. إلا أن المقامات العراقية الرئيسية خرجت عن النطاق المحلي مثل مقام عشيران عجم. وقد اختلف في تسميته. فبعض المصادر أشارت إلى أنه كان يسمى مقام الرشيد نسبة لقبيلة الرشيد. ومنهم من ذهب إلى أنه يعود لقبيلة العشيران.

موسيقياً، تعتبر درجة ارتكاز مقام العجم عند الغرب على نغمة “دو”. أما في الموسيقى الشرقية، فيرتكز في معظم الأحيان على “سي بيمول”، وهي ما تعرف بـ “درجة العشيران”.

ويعتبر عشيران عجم من المقامات التي تتصف بالقوة، لاحتوائه على أبعاد السلالم الغربية الكبيرة. وتوحي معزوفات هذا المقام بالحيوية، حيث لحن عليه الكثير من المارشات العسكرية والمقطوعات الحماسية والأناشيد الوطنية والأغاني المدرسية.

الحجاز ديوان

المقامات العراقية
صورة تم التقاطها يوم 9 يونيو 2009 لموسيقيّين عراقيين وهم يشاركون في مهرجان مخصص للمقام العراقي تم تنظيمه في العاصمة العراقية بغداد. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE / AFP.

يعد مقام الحجاز الأساسي أحد أعرق المقامات الشرقية. وتعود أصوله إلى أرض الحجاز السعودية. إلا أنه منتشرٌ في إيران والعراق وبلاد الشام ومصر والمغرب العربي. ويمتاز مقام الحجاز بغزارة الشعور، وكأنه مملوءٌ بالأسى والشفقة.

ويستند مقام الحجاز ديوان على مقام الحجاز الأساسي. أما كلمة “ديوان” المرفقة به فتعني حسب قاموس الموسيقى العربية واصطلاحات خبراء المقامات (الطبقة الكاملة).

موسيقياً، مقام الحجاز يتكون من ثمان نغمات. أما في الحجاز ديوان، فقد تم إدخال الربع تون أو النصف بيمول الى مقام الحجاز. ويمتاز هذا المقام بطابعه الخاص ووقعه الكبير على المسلمين، سيّما وأنه يُستخدم في رفع الأذان. كما أن بعض القراء المجوّدين يستخدمونه في قراءة القرآن الكريم.

الحسيني

يعد الحسيني المقام العراقي الأكثر شهرة. ويجنح بعض الموسيقيين إلى تصنيفه ضمن المقامات الرئيسية في الموسيقى العربية التي تختصر بعبارة “صنع بسحرك”. ويستند هذا المقام بشكل رئيسي على مقام البيات، وهو أيضاً من المقامات العراقية النشأة، سيّما وأن أصوله تعود إلى قرية بيات الموجودة في العراق. ويعتبر المقام البياتي من أكثر المقامات استعمالا في الموسيقى العربية، لأنه يجمع بين الشجن والرقة والحزن والفرح.

موسيقيا، مقام الحسيني مبنيٌ على سلّم مقام البياتي. فهو يبدأ على مقام بيات قرار ويليه الحسيني الذي ينتقل بين جنس الراست وجنس النهاوند على الدرجة الرابعة. إلا أن سيره يشدّد على الدرجة الخامسة كدرجة توتّر ثم يعود ويستقرّ على الدرجة الرابعة، وهو جزءٌ معتاد وشائع كثيراً في سير مقام البياتي. أما عن التسمية، فتشير معظم المصادر إلى أنها تعود إلى كثرة استخدام هذا المقام في “اللطميات” على مأساة “الإمام الحسين” حفيد النبي محمد الذي قتل في معركة كربلاء مع الجزء الأكبر من أفراد عائلته.

وإن كانت هذه الرواية صحيحة حول هذا المقام الذي يستخدم بشكل واسع في تلاوة القرآن الكريم وفي الأذان، شأنه شأن بقية المقامات، إلا أن اللطميات التي تروي قصة الحسين أيضا تستخدم كافة المقامات. وللمعلومية، فإن جميع هذه المقامات تحنو تجاه النغمات الحزينة. ولذلك، بات الغناء العراقي بعمومه غناءً حزيناً، بما في ذلك الأغاني التي تتضمن في كلماتها ما يشير إلى البهجة.

الحزن عراقي

لا يمكن الحديث عن المقامات العراقية من دون الحديث عن إرث الحزن السائد في الغناء العراقي. ويشكل هذا الإرث ظاهرةً يبدو أنّ لها امتداداً تاريخياً يتجاوز بحدوده الحزن الكربلائي المتعلق بمقتل الحسين، وصولا إلى نواح الآلهة عشتار على حبيبها. وقد صوّرت أسطورة الخلق البابلية احتفالات رأس السنة الجديدة التي تقام سنوياً في موسم الربيع حينما يتساوى الليل والنهار.

وفي هذه الأسطورة، يُقتل الإله دموزي (تموز) أو يؤخذ أسيراً الى العالم السفلي ويحجز هناك. غير أن الآلهة عشتار تحرّره من أسره بعد أيام من البكاء والنحيب والعويل وترتيل المراثي الحزينة إلى أن يرجع إلى الحياة. وتمثل عودة تموز إلى الحياة صورةً رمزيةً “لانتصار الخير على قوى الشر والظلام”.

ورسّخت هذه الأسطورة طقوسا دينية، حيث كانت المواكب تخترق بوابة عشتار وتقام مهرجانات تستمر اثني عشر يوماً. وفي اليوم السابع، تقام دراما محزنة يُمثل فيها موت الإله تموز وعذاباته وآلامه، بشكلٍ يدفع الجماهير إلى هستيريا حزنٍ جماعية. ويتخلل هذه الطقوس الجنائزية لطم الخدود وتمزيق الثياب، وذلك إلى جانب البكاء والندب والعويل.

ويضيف بعض الخبراء مواكب السبي البابلية إلى العوامل التي رسّخت من إرث الحزن الموجود في الموسيقى العراقية. ويوصل البعض هذا الإرث بما عاشه العراق على امتداد تاريخه من المآسي. ومن ذلك مأساة سقوط بغداد على يد المغول في عام 1258.

كلّ هذه المآسي ساهم في تشكيل إرثٍ حزين كان تختلف أشكاله مع كلّ نكبة كبرى تصيب العراق. ومع ذلك، فقد تواصل استخدام أشكال الحزن المختلفة في مواكب النواح الجماعية. ولعلّ هذا ما يبدو واضحا ومتوارثاً حتى الآن في المواكب الحسينية التي يجري تنظيمها في ذكرى مأساة كربلاء. فهذه المواكب يتخللها اللطم وضرب الأجساد تعبيراً عن الحزن على ما حلّ بالحسين.

وبصفةٍ عامة، فإنّ المقامات العراقية أوجدت حالة خاصة يتفرد بها الغناء العراقي عمّا يسود العالم العربي من طابعٍ موسيقي. فهذه الحالة الموسيقية العراقية انبثقت عن المجتمع نفسه بكلّ ما يحمله من موروث ثقافي وديني وسياسي وتاريخي. وبكلماتٍ أخرى، فإنّ الحالة الموسيقية العراقية، بما فيها من مقامات، هي ابنة بيئتها والعوامل التي شكّلت هذه البيئة الفريدة من نوعها.

Advertisement
Fanack Water Palestine