وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العشيرة في الحياة السياسية العراقية: بين ثنائية الوطن والطائفة

العشيرة في الحياة السياسية العراقية تقوم بعملية الضبط الاجتماعي وتوفر الأمن الداخلي لأعضائها ولا تزال تحافظ على وجود العراق كدولة.

العشيرة والحياة السياسية العراقية
صورة تم التقاطها يوم 26 يونيو 2021 لزعماء عشائر عراقيين أثناء حضورهم لأحد التجمعات الانتخابية في العاصمة العراقية بغداد. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE / AFP.

حسين علي الزعبي

تلعب العشيرة منذ مئات السنوات دوراً حيوياً في تلافيف الحياة السياسة في العراق. ورغم الانتقادات الموجهة لهذا الدور، فإن الحالة العشائرية كانت وما تزال من العوامل الهامة التي حافظت على وجود العراق كدولة، على اختلاف تطلعات وتصورات الطوائف والإثنيات تجاه مفهوم الوطن.

“العشيرة تحكم في العراق كانت ومازالت”، هذا ما أكده الباحث المختص في الشأن العراقي حذيفة المشهداني خلال حديثه مع فنك.

المشهداني استشهد على ذلك بجزء من الخريطة الحكومية الحالية في العراق. ويرى الباحث العراقي أن الساحة السياسية في البلاد ساحةٌ عشائرية بامتياز. وعلى سبيل المثال، فإن عشيرة الدليم التي تتواجد بكثافة في المحافظات الغربية لها رئاسة البرلمان عبر محمد الحلبوسي الدليمي. كما أن لها ثلاثة وزراء في الحكومة العراقية الحالية. وتحظى العشيرة أيضاً بمناصب إدارية أخرى، فمحافظ الأنبار من هذه العشيرة، والأمر نفسه ينسحب على بعض وكلاء الوزراء والمدراء العامين.

المشهداني يستشهد كذلك بعشيرة الجبور. فهذه العشيرة لديها عددٌ كبير من أعضاء البرلمان. كما أن محافظي الموصل وكركوك وصلاح الدين من أبناء الجبور. وتحظى عشيرة الجبور أيضاً بحصة تمثيلية من المناصب الوزارية، إذ يتواجد في الحكومة الحالية وزيران من أبناء العشيرة.

أما فيما يتعلق بمناطق شمال بغداد، فإنّ التنافس على التمثيل البرلماني ينحصر عادةً من الناحية العشائرية بين مرشحين من عشيرة الدليم ومن عشيرة المشاهدة. وجرت العادة على أن يحصل المشاهدة على مقعدين نيابيين. في المقابل، يذهب نحو 20 بالمئة من الأصوات للمرشحين المستقلين.

لا يكتفي المشهداني بالإشارة إلى المناطق السنية، بل الأمر برأيه ينطبق على عشائر الوسط والجنوب المصنفة من الناحية الطائفية كعشائر شيعية. وبحسب المشهداني، فإنه على الرغم من تصدّر الأحزاب للمنافسة السياسية، إلا أن الفعل الحقيقي هو للعشيرة؛ فشيخ العشيرة والوجهاء هم عادةً من يوجهون الناخب.

ما هي العشيرة؟

من أشهر تعريفات العشيرة هي أنها مجموعة من الناس تجمعهم قرابة ونسب فعلي أو متصور. وحتى لو كانت تفاصيل النسب غير معروفة، فإن أعضاء العشيرة يجتمعون حول العضو المؤسس أو السلف الأول. وقد تكون الروابط القائمة على القرابة رمزية، حيث تتشارك العشيرة في سلف مشترك محدد يُعتبر رمزًا لوحدة العشيرة.

وتشير بعض التعريفات إلى وصف العشيرة بأنها شكلٌ من أشكال العقد الاجتماعي. ويقوم العقد الاجتماعي في العادة على اتفاق بين الحاكم والمحكوم أو الحكومة والشعب وتتحدد في سياقه الحقوق والواجبات. أما في العشيرة، فإن العقد الاجتماعي يتخذ شكلاً من أشكال الإجبار. وبحسب هذا التصوّر، فإن الشخص غير مخيّر بالانتماء لهذه العشيرة أو تلك، بل يولد في عائلةٍ معينة تنتمي لعشيرة وهذا الشخص يحمل اسمها رغما عنه.

في كتابه “الاثنولوجيا: دراسة عن المجتمعات البدائية”، يرى الباحث محمد الخطيب أنّ العشيرة كمفهوم هي وحدةٌ اجتماعية تعتبر امتداداً للأسرة. وبحسب الخطيب، فإن العشيرة تتميز بتسلسلٍ قرابي معين يتفق مع نظام سكني خاص. وعلى أساس هذا التصوّر، فإن العشيرة تشكّل وحدة مكانية.

ويعتقد أفراد العشيرة الواحدة في وجود جد واحد مشترك قام بتأسيس العشيرة. وأحياناً يكون ذلك الجد شخصية أسطورية. وبحسب الخطيب، فإنّ العشيرة وحدة اجتماعية يسودها التماسك والتعاون الاجتماعي. ويترتب على هذا التضامن الاجتماعي شعور أفراد العشيرة بالأمن والاستقرار. وهو شعورٌ أقوى من ذلك الذي يسود الأسرة الواحدة، وذلك لأن العشيرة أكبر حجما من الأسرة وأكثر قوة منها.

العشيرة في العراق

تطرق الدستور العراقي الحالي بشكل مباشر إلى العشيرة. وجاء في الفقرة الثانية من المادة 45 من الدستور: “تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون وتعزز قيمتها الإنسانية في تطوير المجتمع وتمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان”.

وتعود علاقات العشائر بالسلطات القائمة إلى فترة تولي مدحت باشا لمنصب والي العراق. ومنح مدحت باشا شيوخ العشائر مكانة اقتصادية مميزة من خلال تسجيل مساحات واسعة من الأراضي المملوكة باسمهم والتي كانت تسمى بالأراضي “الأميرية”. وعزز قرار مدحت باشا من نفوذ شيوخ العشائر وجعل أفراد العشيرة مأجورين عندهم. وكان مدحت باشا يسعى من خلال هذا القرار لإرضاء شيوخ العشائر حتى يزودوا قواته بالمقاتلين، لاسيما خلال حملته على منطقة الإحساء وغيرها من المناطق التي تشكل حاليا دول الخليج.

وفي عام 1916، سنّ البريطانيون قانوناً أطلق عليه اسم نظام دعاوى العشائر، وذلك لتنظيم المنازعات بين العشائر وفقا لأعرافها وعاداتها. وأعطى هذا النظام السلطة لرؤساء العشائر للفصل في القضايا المدنية والجزائية بين أفراد عشيرتهم أو بين عشائر مختلفة.

ويشير عددٌ من الباحثين إلى أن تغير سياسة الوالي العثماني وفرضه فيما بعد الضرائب على العشائر أدى إلى اضطراب العلاقة مع الدولة العثمانية. كما أن سير البريطانيين على نفس النهج كان سببا في اندلاع ثورة العشرين.

ومع بداية تشكل الدولة العراقية، حاولت الدولة تقوية الإدارة الرسمية والقانونية كما يقول الكاتب جاسم الشمري. ووصلت الدولة الوليدة إلى مرحلةٍ حذفت فيها خانة اللقب من الأوراق الرسمية لاعتقادها أن هذا الأمر قد لا يتوافق مع مفهوم دولة المواطنة وربما يؤدي إلى شرخٍ اجتماعي.

العشيرة والدولة: العشيرة والمذهب

في كتابه “الضبط الاجتماعي“، يقول الكاتب غني ناصر القريشي إن العشيرة تقوم بعملية الضبط الاجتماعي وتوفر الأمن الداخلي لأعضائها. وبحسب القريشي، فإن ذلك يتم عن طريق قيام رئيس العشيرة وأعوانه بالإشراف على تطبيق القانون الذي يتمثل في مجموعة من التقاليد والأعراف. ويشرف رئيس العشيرة على تنفيذ العقاب لمن يخالف تلك التقاليد والأعراف.

إلا أن مفهوم الدولة والقانون يفترض أن يوفر لجميع المواطنين ما توفره العشيرة لأبنائها عبر تطبيقه العادل للقوانين على كافة أفراد المجتمع. وبطبيعة الحال، فإن دور العشيرة يزداد ويصبح أكثر حضورا وتأثيرا كلما ضعفت مؤسسات الدولة ولاسيما القضاء. ولهذا، قد ينظر إلى العشائرية باعتبارها شكلاً بدائياً يمنع تحقيق مفهوم المواطنة.

هذا الطرح يؤكد عليه حذيفة المشهداني دون أن يحمّل العشيرة كامل المفاهيم السيئة، فالعشيرة تشكل نظاما يحمي المجتمع عندما تنهار مؤسسات الدولة. وفي هذا السياق، يقول المشهداني لفنك: “الغالبية العظمى من الشعب العراقي هي مكوناتٌ عشائرية، سواء أكانت من المكون العربي بشقيه السني والشيعي أو حتى من المكون الكردي وكذلك التركماني”.

وبحسب المشهداني، فإنّ العشائر هي التي شكلت الدولة العراقية وجاءت بالملك فيصل الأول. وتم وضع أساس الدولة وتشكيل مجلس الأعيان المؤلف من شيوخ العشائر بالدرجة الأولى ومن رجال الدين. وعلى أكتاف العشائر، تشكّل الجيش العراقي.

ورغم ما يبدو من انشقاقات طائفية في المشهد العراقي، إلا أن المشهداني يشدد على أن المجتمع العراقي يرتبط بصورةٍ أكبر بالحالة العشائرية. وفي هذا السياق، يشير إلى أن معظم العشائر في العراق فيها من الشيعة وفيها من السنة. أما الصراع الطائفي الذي شهدته البلاد فهو برأيه “صناعة مخابراتية إيرانية”.

ويستشهد المشهداني في وجهة نظره بالقتال الذي حدث ضد القوات الأمريكية في النجف والفلوجة. ويقول المشهداني في هذا الصدد: “كان القتال بمشاركة مقاتلين من السنة والشيعة ومن المسيحيين أيضا. وعندما قامت القوات الأمريكية بمحاصرة القوات الصدرية في النجف عام 2004، طلب مقتدى الصدر من المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة بالسيستاني المساعدة لفك الحصار. إلا أن المرجعية لم تستجب له ومن استجاب له هم مقاتلو الجيش العراقي المتمركزون في مدينة الفلوجة السنية. وكان هؤلاء المقاتلون ينتمون إلى مختلف مكونات النسيج العراقي. وعندما أصيب الصدر في تلك الاشتباكات، تم إخراجه من النجف ومعالجته في مدينة جرف الصخر السنية”.

ويضيف المشهداني: “بقي الأمر على هذا الحال حتى وقعت حادثة تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006. وكانت تلك الحادثة بمثابة نقطة تحول في المشهد العراقي وبدأت بشق نسيج المجتمع العراقي”.

وألقى المشهداني باللوم على الحرس الثوري الإيراني وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، حيث قامت القوات الإيرانية بتأجيج عمليات القتل الطائفي عبر دعمها لمجموعات ميليشياوية شيعية بقيادة قيس الخزعلي وأحمد الخفاجي. واستمر هذا الأمر حتى عام 2010 مع تنامي الوعي الشعبي بخطورة هذا الانقسام الطائفي.

وجاءت عمليات التوعية بفضل جهود الوطنيين العراقيين والتقارب العشائري وما وفرته وسائل التواصل الاجتماعي في حينه من مساحة وعي وتعريف بالحقائق. وانعكست عملية التوعية حينذاك بصورةٍ إيجابية على الانتخابات التشريعية التي عقدت في ذلك العام. وفازت القائمة العراقية التي كانت تضم شخصيات سنية وشيعية بأعلى عدد من المقاعد، متقدمةً على القوائم الأخرى ذات الشعارات الطائفية.

حالة الوعي تلك استمرت حتى بروز تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي استفز النفس الطائفي من جديد. ومرةً أخرى، تمكن الشعب العراقي من تجاوز هذا الأمر خلال ثورة تشرين التي قادها الشباب في عام 2019 للتغلب على تعيشه البلاد من حالةٍ طائفية.

ويختم المشهداني بالقول: “ما يمنع الشعب العراقي من إنجاز حالة الدولة بالمعنى الحقيقي ليس العشائر. فهذه قامت الدولة في الأصل على أكتافها. المشكلة تكمن في الميليشيات التي تفرض على العراقيين سلطات الأمر الواقع بقوة السلاح وتأتمر بأوامر من خارج العراق. هذه الميليشيات تحمل أيديولوجيا وعقائد دينية تقدم الولاء الديني على الولاء الوطني. وبالتالي، فإن حضور الميليشيات المبنية على أساسٍ طائفي هو ما يقف على طرفي نقيض من فكرة الوطن”.

Advertisement
Fanack Water Palestine