وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأرمن: إرثٌ ثقافي وتاريخي في العراق

الأرمن في العراق
صورة تم التقاطها يوم ٦ يناير ٢٠٠٦ لامرأة أرمنية تنتسب للطائفة الأرثوذكسية وذلك أثناء صلاتها في مراسم عيد الميلاد الخاص بالجالية الأرثوذكسية. المصدر: ALI AL-SAADI / AFP.

علي العجيل

المقدمة

لا يمكن الحديث عن الحداثة في المجتمع العراقي بعد تأسيس الدولة المعاصرة عام 1921م إلا ولهم النصيب الأكبر فيها للأرمن. ويحيلنا هذا إلى تأكيد أن الحداثة الفكرية – الاجتماعية في العراق لم تكن حكراً على المسلمين فحسب على الرغم من كونهم الغالبية المطلقة. وليس غريباً أن هذه الحداثة تعرضت للكثير من الانتكاسات مع مغادرة هذه المجموعات البشرية الفاعلة البلاد.

وكان العراق قد شهد نزوحاً أرمنياً كثيفاً إليه خلال الحرب العالمية الأولى. وبمرور الزمن، اندمج النازحون الأرمن في المجتمع العراقي وباتوا جزءاً أساسياً ومهماً منه، لينضموا بذلك إلى المهاجرين الأرمن القدامى الذين استقروا في بابل بعد أن “كانوا ينقلون البضائع إليها عبر نهر الفرات” في حقبة ما قبل الميلاد بحسب المؤرخ اليوناني هيرودوتس.

اهتم الأرمن بالعديد من الجوانب الثقافية كالعزف، والرقص، والتصوير الفوتوغرافي، والفن التشكيلي. وساهموا بشكل كبير في تحريك عجلة الفن العراقي، كما عززوا من تطوّر الحراك العراقي في جميع القطاعات التي عملوا فيها.

فن رفيع المستوى

في الموسيقى، برزت عدة أسماء أرمنية كأعلام في الأنغام الرصينة التي غنتها الفرقة السمفونية الوطنية العراقية. وتتضمن القائمة كلاً من كريكور برصوميان، وآرام بابوخيان، وسيلفا بوغوصيان، وبابكين جورج، وآرام تاجريان، بالإضافة إلى عازف الكمان الراحل نوبار باشتكيان، الذي كان من مؤسّسي الأوركسترا الأعرق في المنطقة، والتي بدأ تأسيسها فعلياً عبر “جمعية بغداد الفلهارموني” عام 1948م. واستمرّت هذه الأوركسترا إلى أن أصدر الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم قراراً بـ “تأميمها” عام 1959م، وجعلها فرقة سيمفونية تابعة للدولة بعد أن كانت نشاطاً ثقافياً واجتماعياً خاصاً.

أما في أشكال الموسيقى الغربية المعاصرة المختلفة، فثمة لمسة أرمنية واضحة، كتلك التي مثّلها هرانت كتنجيان صاحب فرقة “شيراك”، الفرقة التي خرجت أواخر الستينات واستمرت أكثر من عقدين كاملين، لوّنت فيهم ليالي بغداد بألوان الجاز والروك المعاصرة. حينذاك، كانت الموسيقى الغربية علامة مدنية رفيعة للعاصمة العراقية. أما على مستوى موسيقى “الهيفي ميتل”، فكان بيرج زكريان من أدخلها بقوة إلى بغداد عبر فريق “سكير كرو”. كما تضم قائمة الموسيقيين الأرمن كريتسوفر كرابديان، فنان موسيقى الجاز وعازف البيانو الشهير.

ولم يتوقف أثر الموسيقيين الأرمن عند حدود الأنغام الغربية في شكليها الكلاسيكي والمعاصر، بل امتد إلى الشكل الموروث الأكثر رصانة: “المقام العراقي”. وكان ذلك عبر اجتهادات الأب نرسيس صائغيان الذي بدت واضحة وعميقة. وامتاز الأب صائغيان بوفرة معلوماته عن المقام، وكان مقصداً لجميع قراء المقام العراقيين لمعرفة أهم المعلومات وأكثرها دقة عن المقام العراقي. وإلى جانب الأب صائغيان، كان سيساك زاربهانيليان موسيقاراً عظيماً وأحد فلاسفة الموسيقى الشرقية وعازفاً بارعاً على العود والكمان. كما قام زاربهانيليان بتأليف العديد من القطع الموسيقية أيضاً، مستخدماً فيها مقامات صعبة لم يجرؤ موسيقار غيره فيما بعد على الاقتراب منها.

بياتريس أوهانيسيان

الأرمن في العراق
صورة تم التقاطها يوم ٤ يونيو ٢٠٠٣ للعراقية الأرمنية آني ملكونيان وهي تعزف على كمانها ضمن بروفة أقامتها الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية في بغداد. المصدر: TIMOTHY A. CLARY/ AFP.

كانت بياتريس أوهانيسيان أحد العناصر الرئيسية في الفرقة السمفونية العراقية وقدمت مع زملائها عروضاً فنية جميلة في بلدان عديدة. كما كانت العازفة المنفردة الأولى في العراق، وأول مؤلفة للموسيقى الكلاسيكية، ولها العديد من المقطوعات أجملها مقطوعة “الفجر”.

درست أوهانيسيان الموسيقى في معهد الفنون الجميلة في القسم الغربي – فرع البيانو، حيث تتلمذت على يد أستاذ البيانو جوليان هيرتز. وعندما كثر عدد طلاب المعهد، اضطر بعض الأساتذة إلى تعيين من تخرج في الدورات الأولى بدرجة امتياز أو من كانوا في طور الدراسة بصفة محاضرين في المعهد، ومدرسين للعزف على آلة البيانو. فكانت بياتريس اوهانيسيان من اللواتي درسن الطلاب في فرع البيانو إلى جانب الأساتذة فريد الله ويردي وسلفا بوغيان وتاليا هالكياس وماري هالكياس وفيوليت دبي وديزي الكبير ووليم ريمونه وموروزاك.

بعد تخرجها من المعهد، أكملت أوهانيسيان دراستها في الأكاديمية الملكية في لندن ونالت شهادة التخرج وجائزة فردريك ويستليك. وحصلت فيما بعد على منحة فولبرايت لمواصلة دراستها في الولايات المتحدة الأمريكية في مدرسة (جوليارد) في نيويورك حيث انهت دراستها الموسيقية بتفوق في العام 1959م، ثم عادت إلى العراق فيما بعد لتصبح رئيسة قسم البيانو في معهد الفنون الجميلة.

وانطلاقاً من هذا، كان للراحلة أوهانيسيان تأثيرها الفاعل في تعزيز الموسيقى الكلاسيكية الغربية في العراق فتقول “في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، كنت أول موسيقية عراقية تواجه الأوروبيين بطريقة محترفة”.

في المجالات الأخرى

لم يرتضِ الأرمن في العراق إلا أن يكونوا في مقدمة الطوائف التي تركت أثراً جلياً في خدمة المجتمع في كل المجالات التي عملوا فيها.

وفي مراجعة لروّاد الحداثة العراقية الأوائل، ثمّة أول طبيبة عراقية عيّنتها وزارة الصحة، وهي الأرمنية، الدكتورة آنة ستيان، وأوّل فتاة عراقية دخلت مدرسة الطب في بغداد وتخرّجت فيها عام 1939م، كانت الطبيبة ملك إبنة السيد رزوق غنام النائب عن مسيحيي بغداد في مجلس الأمة. ورزوق غنام نفسه كان صاحب جريدة “العراق” التي تأسّست 1920م بدعم من السلطة البريطانية، ويعتبر أول صحافي بالمفهوم المعاصر عرفه العراق. وأول من أدخل تلقيح مرض الجدري إلى بغداد هو الدكتور أوهانيس مراديان. كما أن أحد مؤسسي كلية الطب هو الدكتور هاكوب جوبانيان، الذي حصل على الوسام الملكي عام 1954م تقديراً لخدماته في المجال.

وفي مجال التصوير الفوتوغرافي، سطع نجم خاجيك ميساك كيفوركيان في مجال التصوير السينمائي، والمصوّر الصحافي الرائد أمري سليم لوسينيان الذي وثّق ملوك العراق وزعماءه وحفظ أرشيفه جزءاً كبيراً من تاريخ العراق المعاصر. وفي مجال فن العمارة، برز اسم المهندس المعماري مارديروس كافوكجيان، الذي وضع المخططات الهندسية لضواحي الموصل وأربيل والعمادية.

وفي المجال الإنساني، يتداول أهل بغداد اسم سارة تايتوسيان، كواحدة من الشخصيات النسائية البارزة. وقد عرفت بينهم بـ “سارة خاتون” أو “سارة الزنكيلة”، أي الغنية المعروفة بمآثرها الاجتماعية ومد يد العون ومساعدة المحتاجين. وقد أسست تايتوسيان مع عدد من النساء الأرمنيات في بغداد الهيئة النسوية الأرمنية لإغاثة المهجرين الأرمن، الذين نزحوا بعد الإبادة الأرمنية. وبعد أن فقد حي “كمب الكيلاني” قدرته على استيعاب مزيد من المهجرين الأرمن، وزعت تايتوسيان عام 1937م أراضيها لقاء مبالغ مالية زهيدة، فصار الحي يحمل اسمها وهو “كمب سارة”.

أما في مجال الفنون، فقد ذاع صيت التشكيلي ساران فارتان الكسندريان الذي شارك في نشاطات الحركة السوريالية بباريس نهاية ثلاثينات القرن الماضي، عبر الكثير من المؤلفات النثرية والدراسات، والرسّام يرجان بوغوصيان الذي يعد من أبرز السورياليين العراقيين، والفنان التشكيلي إنترانيك أوهانيسيان، وممثلة المسرح القديرة آزادوهي صموئيل لاجينيان والكثير الكثير من الأسماء التي يصعب الحديث عمّا تركته من أرث خالد في سطورٍ محدودة.

يقول الكاتب الأرمني وليم سارويان عن الأرمن التالي: “أرسلهم إلى الصحراء من دون طعام أو ماء؛ احرق منازلهم وكنائسهم، ثم انظر إليهم لترى أنهم سيضحكون مجدداً ويغنّون ويصلّون. لأنه عندما يجتمع اثنان منهم في مكان ما في العالم، فسيخلقون أرمينيا جديدة”. وهذا صحيح فالفن الأرمني يشبه كثيراً سفينة نوح، المرسومة في الشعار الرسمي للجمهورية الأرمنية، والتي حملت معها الهوية والفن والتراث، لتحمي الأرمن من طوفان المذابح التي تعرضوا على مدار التاريخ لها، في حين شكلت كل بقعة وطئت فيها أقدام الناجين حجر أساس لقيام حضارة جديدة.

المصادر:

– هاشمي، حميد. الأرمن العراقيون: التاريخ، الثقافة، الهوية. دار روزنامة. القاهرة. 2016م.

المصدر:

https://books.google.com/books?id=zepnAQAACAAJ&dq=%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D9%85%D9%86+%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%88%D9%86+%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE+%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9&hl=ar&sa=X&ved=2ahUKEwjHx6qJzcj1AhVh4uAKHUOmDNgQ6A
F6BAgDEAM

– أرمن العراق.. رؤية تاريخية.

المصدر:

https://m.ahewar.org/s.asp?aid=549546&r=0

– ملكة البيانو.. بياتريس اوهانيسيان

المصدر:

https://almadasupplements.com/view.php?cat=22614

– شخصيات أرمنية عراقية تزرع الخير والسلام في كل مكان.

المصدر:

https://aztagarabic.com/archives/1346

Advertisement
Fanack Water Palestine