وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

رقصة الجوبي: العراقيون عندما يزلزلون الأرض

رقصة الجوبي
صورة تم التقاطها يوم ٥ إبريل ٢٠١٨ لمجموعة من الكرد العراقيين وهم يرتدون ملابس تقليدية للعب رقصة الجوبي في مهرجان ثقافية تم تنظيمه في جبال مقلب على بعد ٣٠ كيلومتراً شمال شرق الموصل. المصدر: SAFIN HAMED / AFP.

علي العجيل

تعتبر رقصة الجوبي من أهم الطقوس الفلكلورية التي يلجأ لها أبناء الرافدين منذ بداية التاريخ وإلى يومنا هذا للتعبير عن المشاعر والذات والثقافة العراقية.

وعلى عكس بقية الرقصات الغربية والشرقية التي تقوم على الرقص الفردي بين الجماعة أو بالرقص بين شخصين، يتحلّق الراقصون في العراق حول بعضهم البعض في رقصة الجوبي. وهم بذلك يسعون، حسب ما يذكره مروان الجبوري، للدلالة على الأخوة والتضامن وللتعبير عن روح الجماعة.

وأثناء ممارسة رقصة الجوبي، تتشابك أيدي العراقيين وتتقارب أكتافهم ليشكلوا نصف دائرة يقودها شخصٌ بيده مسبحة أو منديل معقود الرأس لضبط الإيقاع.

والجوبي ميراثٌ يصل العراقيين بالأجداد. ولا يقتصر هذا الميراث الثقافي على الرقصة فقط، بل يمتد ليشمل كلّ ما يرتبط بها من ألحان وأغانٍ وأشعار ومواويل.

أصل التسمية

يختلف الباحثون في تحديد أصل التسمية وبداية انتشارها في العراق بحسب ما ذكرته الصحفية شيرين صبحي. فمنهم من يعتقد أنها تعود إلى اسم أسرة منسوبة إلى “جوب”. وتعني كلمة “جوب” الفارسية “الخشب” بالعربية. وهناك من رأى أن أصل كلمة “الجوبي” يعود إلى مفردة “جا” ذات الأصول الآشورية التي تقال في مناطق جنوب البلاد وتعني “حبيبي”. وذهب آخرون إلى الاعتقاد بأن الكلمة ذات أصول كردية، سيّما وأن اسم أحد القبائل الكردية هو جوبي.

أمّا المؤرخ والعالم اللغوي مصطفى جواد، فيرى أنها مشتقة من كلمة “الجوبة”، والتي تعني الفسحة من الأرض أو الساحة التي تباع فيها الأغنام. ويبدو أن هذه الرقصة كانت تمارس سابقاً في تلك الأماكن المفتوحة قبل أن تنتقل إلى فضاءات أخرى.

ومن الغريب أنّ هذا النوع من الغناء لم يرد له أي ذكر في كتب الأدب الشعبي والغناء العراقي. ويشمل ذلك كتاب “الأغاني الشعبية” للمؤرخ عبد الرزاق الحسني، و”فنون الأدب الشعبي” للشيخ علي الخاقاني، وكتاب “الأغنية الفولكلورية” لعبد الأمير جعفر، وغيرها من الكتب الشهيرة. ولم يهتم برقص الجوبي أحد باستثناء بعض الدراسات والأبحاث الفقيرة وغير الناضجة.

ويعد عبد الجبّار فارس أول كاتب عراقي يشير إلى رقص وغناء الجوبي، حيث كتب: “فريق من المشاة يجتمعون ويشكلون حلقة ويكونون لعبة خاصة، وهي نوع من الرقص بأنغام خاصة يسمّونها الجوبي ويقف في وسط الحلقة مزمّر وبيده المطبك يزمّر به وقد يرأس حلقة الجوبي غلام جميل طويل الشعر وعلى رأسه قلنسوة ملونة ويكون رئيساً للعبة”.

ويكمل الفارس: “ولعبة الجوبي، لعبة خاصة، فيميل كلّ راقص إلى الذي بجانبه أثناء القفز طوراً لليمين وآخر لليسار وإيعاز الحركة يكون بيد رئيس الحلقة. وهذه اللعبة منتشرة في الفرات كثيرا ولا تخلو من بهجة ومسرة”.

ويختلف شكل هذه الرقصة بين منطقة وأخرى؛ فالجوبي في الأنبار لا يشبه الجوبي في صلاح الدين وكركوك وغيرها، والجوبية العربية مختلفة عن جوبي الأكراد والتركمان وغيرهم. ولكل جماعة طقوسهم الخاصة. وكلّ منطقة أضافت تفاصيل تنفرد بها عن المناطق الأخرى، سواء في طريقة الأداء أو الألحان والأغاني المرافقة.

وتتمثل أغلب هذه الفروقات في طريقة القفز وتحريك الأرجل، والألحان التي تختلف إيقاعاتها بين بطيئة وسريعة. كما أن الفروقات تشمل الآلات التقليدية التي تترافق مع الرقصة وهي المزمار والطبل، وآلة الأورغن الحديثة مؤخراً.

بداياتها وأنواعها

رقصة الجوبي
عراقيون أيديزيون يرقصون على أنغام الموسيقى التقليدية في معبد لاليش على بعد ٤٣٠ كيلومتراً شمال غرب العاصمة العراقية بغداد. المصدر: SAFIN HAMED / AFP.

كانت رقصة الجوبي في السابق حكراً على الرجال لارتباطها بالتحدي والرجولة والقوة واستعراض قوة العشيرة وشبابها لإرهاب الخصوم، أما اليوم فإن الاختلاط الاجتماعي واختفاء بعض القيم والعادات البدوية جعلها مشاعة للجميع، حتى أنها صارت موضة النوادي والحفلات الغنائية في الفترة الأخيرة.

كما صار السكان المحليون، على امتداد نهري دجلة والفرات، ابتداءً من بغداد ومحيطها باتجاه شمال العراق وغربه، يحترفون هذه الرقصة ويمارسونها في أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية.

يذكر الباحث عبد الجبار السامراني أن للجوبي ثلاثة أنواع. ويقتصر أداء النوع الأول من رقصة الجوبي على الرجال، علماً بأن هذا النوع ينتشر في وسط وجنوب العراق. أما النوع الثاني من الجوبي، فتشترك فيه النساء مع الرجال بصورة مختلطة. وتقوم النساء بأداء نفس الحركات التي يؤديها الرجال. وينتشر هذا النوع في مناطق الشمال والموصل وكركوك وتكريت والقرى المجاورة لها. أما النوع الثالث فهو مخصص للنساء. وفي الوقت الذي يقتصر فيه أداء رقصات وموسيقى هذا النوع على النساء، فإن العادة جرت على أن يتم اللجوء إلى أحد الصبية للعزف على المزمار في حال عدم وجود سيدة قادرة على العزف على هذه الآلة. وينتشر النوع من الجوبي في مناطق الفرات الأوسط.

فرق متخصصة

حرص معظم الفنانين في العراق، وعلى مدى عقود طويلة على أن تضم ألبوماتهم أغنية واحدة على الأقل من هذا اللون. ولا تكاد نجد مطرباً إلا غناه بكلمات مختلفة وألحان متقاربة.

وأبرز هذه الأغاني “لقعدلك عالدرب قعود” و”عيد وحب” و”يا يمة انطيني الدربيل“، فضلاً عن بعض الأغاني الحديثة التي يصدح بها الفنانون الشباب.

ولأنّ الجوبي رقصة شعبية يألفها ويحبها العراقيون أجمع، فقد بادر الكثير من الشباب العراقي إلى تشكيل فرقاً راقصة لإحياء المناسبات. كما أنهم يشاركون في بعض مسابقات الجوبي التي تقام بين المناطق والمحافظات المختلفة بين الحين والآخر.

وتمارس هذه الرقصة في الغالب من فرقة تتألف من عشرة أو عشرين شخصاً أو أكثر بحسب ما يذكره الصحفي محمد الباسم. ويرتدي هؤلاء لباسهم التقليدي العراقي، وهو ثوب أبيض “الدشداشة”، والشماغ والعقال، أو من دون الأخيرين. ويشكّل الراقصون حلقة نصف مفتوحة دون التقاء المحيط. وعلى طرف هذه الحلقة، يرقص رئيس اللعبة وبيده منديل، ويغني النوع المناسب للرقصة. وعلى صوته أو نغم المزمار أو الطبل، تتم الرقصة.

ويذهب الباحثون إلى تقسيم هذه الرقصة إلى ثلاثة مراحل. وتبدأ المرحلة الأولى بوقفة الراقصين. وعند الحركة، يدقّ الراقصون الأرض بأرجلهم اليسرى، يرفعونها بحدود نصف قدم ويضعونها اعتماداً على عزف الآلة الموسيقية المصاحبة للرقصة.

أما المرحلة الثانية، وتوصف بالأعنف، فيتم فيها رفع الرجل اليمنى حوالي نصف قدم، فيما ترفع اليسرى بمستوى ركبة الرجل اليمنى ثم يدكون الأرض معاً. وتسمى المرحلة الثالثة بـ “التثليثية”. وتتم هذه المرحلة بقفز الراقصين، بحيث تكون أرجلهم بنفس المستوى لثلاث مرّات بسرعة، وهم ينظمون الإيقاع.

وتجدر الإشارة إلى تفضيل العراقيين استخدام مفردة “لعب” بدل “رقص” للإشارة لمن يمارسون الجوبي.

ضرب الأرض بالأرجل

رقصة الجوبي
راقصون عراقيون يلعبون رقصة الجوبي التقليدية في حفلٍ تمّ تنظيمه لتكريم نجوم السينما العراقية في بغداد يوم ٢٢ يونيو ٢٠٠٦. المصدر: SABAH ARAR / AFP.

تربط غالبية الدبكات الشعبية الأخوة أو أبناء القبيلة أو المجتمع المتشابه بعاداته وثقافته. وتعود هذه الدبكات بأصولها إلى الأساطير السومرية والبابلية، التي تقوم على أساس الدوران حول المكان المقدس، لاستدرار البركة وضرب الأرض النائمة لإيقاظها من سباتها الذي استمر طوال فصل الشتاء.

وتعتمد الدبكة التي يؤديها البدو على هزّ الأكتاف قليلاً والتمايل بخيلاء عند تحريك القدمين، وعدم رفعهما إلا قليلاً عن الأرض. ويسرح اللاعبون في الرقص على مساحة واسعة من الخلاء، مع تحريك القدمين إلى الأمام وإلى الخلف، كأنهم يسرحون ويطوفون مع الماشية. وبطبيعة الحال، فإن الأسلوب الذي ينتهجه البدو في الدبكة يأتي للتعبير عن عادة التنقل الرعوية. أما الدبكة التي يؤديها الجبليون أو الفلاحون، فتختلف في حركاتها عن رقصة البدوي، بالقفز المنتظم والعنيف على الأرض.

وما ضربات الراقصين المتكررة على الأرض في رقصة الجوبي إلا نوع من طقوس دعوة الأرض إلى طرد الأرواح الشريرة وإيقاظ تموز (إله الخصب الرافديني) ليعود من عوالمه السفلية التي سجن فيها، فتعود معه الحياة. وبذلك، فإن رقصة الجوبي ليست سوى محاكاة رمزية للحركة الأولى التي ترمز إلى بداية خلق الكون. وتتوافق مع رقصة الجوبي في هذا الترميز أغلبية الرقصات الشعبية الرافدينية.

التوقف المؤقت والعودة

لم تنقطع رقصة الجوبي في مناطق غرب البلاد إلا بعد غزو تنظيم “الدولة الإسلامية” لتلك المناطق. واعتبر التنظيم الجوبي من المحرمات ورأى أنها تؤثر سلباً على الرجولة. وعلى هذا الأساس، ابتعد أغلب أعضاء الفرق والمغنين والمهتمين بهذا اللون من الغناء عن أعمالهم واهتماماتهم المحظورة في ذلك الوقت.

وأدت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على حياة الإنسان العراقي في تلك المناطق إلى انحسار رقص وغناء الجوبي فيها.

وبعد طرد تنظيم “الدولة الإسلامية”، عاودت رقصة الجوبي الظهور بقوّة أكبر مع عودة غالبية أهالي مناطق الأنبار وصلاح الدين إلى ديارهم. وجاء ذلك كردة فعل على الطبيعة المتطرفة لما تم ممارسته من تعسّف بحق هذه الرقصة وراقصيها. وباتت مناسبات نجاح الأولاد في المدارس والحفلات الخاصة والزيارات تشهد رقص وغناء الجوبي، علماً بأن ممارسة هذه الدبكة في السابق كان مقتصراً على المناسبات التي تمثل حدثاً بارزاً لدى الأهالي.

وهكذا، فإن لاعبي الجوبي أو الجوابة، كما يسميهم أهل العراق، باتوا ضيوفاً دائمين في كل مناسبة أو محفل اجتماعي، وإن كان بسيطا. ووصل الأمر ببعض الأهالي إلى توجيه دعوات خاصة لمحترفي الجوبي من مناطق ومدن أخرى، من أجل استضافتهم بهدف إحياء مناسباتهم.

Advertisement
Fanack Water Palestine