وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

صناعة العود العراقي تواجه خطر الاندثار

صناعة العود العراقي، من الازدهار إلى حافة الانقراض، تؤكد الحاجة إلى بذل الجهود لحماية التراث الثقافي العراقي.

صناعة العود العراقي
صورة تم التقاطها يوم 13 مارس 2006 لعراقي وهو يجرب العزف على عودٍ عراقي تقليدي في أحد محلات تصنيع الآلات الموسيقية في شارع الرشيد التاريخي بالعاصمة العراقية بغداد. المصدر: SABAH ARAR / AFP.

حسين علي الزعبي

تحظى آلة العود بمكانة خاصة في العراق وفي قلوب العراقيين. ولطالما حظيت صناعة الأعواد العراقية بإقبالٍ واسع في الأسواق العربية والأجنبية. بيد أن هذه الصناعة باتت تواجه تحدياتٍ كبيرة قد تعرّض وجودها إلى الخطر.

وتجمع غالبية المراجع على أنّ العراق الموطن الأصلي للعود الذي ظهر كأول آلة وترية قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد في حقبة الحضارتين السومرية والأكادية.

أساطير نشأة العود

تتضارب الدراسات والآراء حول نشأة العود. وتلجأ بعض المراكز للأسطورة عندما يتعلق الأمر بهذه الآلة. وبحسب إحدى الروايات التي ذكرها مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، فإنّ من اخترع العود هو لامك بن متوشاح بن محويل بن عياد بن اخنوخ بن قايين بن آدم.

وكان للامك ولدٌ وُلِد له قبل وفاته بعشر سنين، فأشتدّ فرحه. بيد أن هذا الغلام توفّي عندما بلغ من العمر خمس سنوات، فجزع له أبوه وأخذه وعلقه على شجرة وقال: “لا تذهب صورته عن عيني حتى أموت”. وتمضي الرواية كما يلي: “جعل يقع لحمه من العظام حتى بقيت الفخذ بالساق، والقدم بالأصابع، فأخذ (لامك) عودا من الخشب ورقّقه فجعل صدره على صورة الفخذ وعنقه على صورة الساق ومؤخرته على هيئة القدم وعلّق عليه أوتاراً كالعروق، ثم جعل يبكي به وينوح حتى عُمي. وكان أول من ناح وغنّى على فراق إبنه وسميت الآلة التي صاحبته بالعود”.

وقيل أيضاً إن أوّل من صنع العود جمشيد، وهو ملكٌ فارسي يرد ذكره في الشاهنامة والروايات الزرادشتية، وأسماه (البربط) أي باب النجاة. وقيل أيضا أن العود ظهر في عهد داود عليه السلام. كما قيل إن الجنّ صنعته للنبي سليمان. وإذا كانت المصادر العربية قد جعلت لامك مخترع العود، فإنّ التوراة جعلت يوبال بن لامك أباً لكل ضارب على العود والمزمار.

أما كتاب “التاريخ الكامل“، فيرى أن النبي نوح أول من صنع العود. فيما يؤكد الباحث الآثاري المعروف صبحي أنور رشيد: “’أن أقدم ظهور لآلة العود كان في العراق القديم وذلك في العصر الأكادي ما بين عامي 2350 و2150 قبل الميلاد”.

الرحلة الوترية

ترك الفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي سبع رسائل في الموسيقى، ومنها رسالته في المدخل إلى صناعة الموسيقى. ويقول الكندي إن العود كان معروفاً في شبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام وفي بلاد ما بين النهرين كذلك. وكان للعود ثلاثة أوتار فقط، مع صندوقٍ موسيقي صغير وعنق طويل دون أي أوتاد ضبط. ولكن خلال الحقبة الإسلامية، تمّ توسيع الصندوق الموسيقي، وأضيف وتر رابع وقاعدة أوتاد الضبط.

وبحسب الآثار التي تعود للعهد الأكادي، فقد ظهر العود في الألفية الثالثة قبل الميلاد وتبين أنه كان يحتوي على وتر واحد ويمتاز بطول رقبته وصغر صندوقه الصوتي. ومع انتقاله إلى بلاد فارس 1700 قبل الميلاد، تمت إضافة وترين ليصبح عددها ثلاثة أوتار. أما التطور الأكبر في هذا السياق فجاء مع ظهور العازف الشهير زرياب.

زرياب

ولد أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، الملقب بزرياب، في مدينة الري العراقية. وعاش زرياب في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد. ولُقِّب هذا الموسيقي بزرياب لعذوبة صوته وفصاحة لسانه ولون بشرته القاتم الداكن. والزرياب هو اسم طائر أسود اللون عذب الصوت يعرف حالياً بالشحرور.

وبعد أن سطع نجم زرياب في بغداد، وقع خلافٌ بينه وبين أستاذه إسحاق الموصلي، فقرر الانتقال إلى الأندلس بعد أن أضاف وترا رابعا على آلة العود خلال فترة وجوده في بغداد.

وفي الأندلس، زاد زرياب على أوتار العود وتراً خامساً اختراعاً منه. كما أنه أول من بدأ باستخدام ريش النسر كـ “ريشة العود” بدلاً من الخشب.

أوتار عراقية

صناعة العود العراقي
صورة تم التقاطها يوم 25 مايو 2023 لصانع الأعواد العراقي سامر رشيد، الذي تعلّم هذه الحرفة في سنٍّ مبكرة عن أبيه. وتظهر الصورة سامر وهو يتفقد أحد الأعواد في ورشته الموجودة ببغداد. المصدر: Murtadha Al-Sudani/ Anadolu via AFP.

يشتهر العراق أيضاً بكونه البلد الذي أضاف الأوتار المتبقية لآلة العود. ويختلف العازفون العراقيون في تنسيب إضافة الوتر السادس. وعلى سبيل المثال، قال العازف العراقي الشهير نصير شمّة، في حوار أجراه مع صحيفة اليوم السعودية، إن محمد سالم بيك هو من أضاف الوتر السادس قبل حوالي قرنين من الزمن. في المقابل، فإنّ موقع الوتر السابع العراقي ينسب إضافة الوتر السادس إلى الشريف محي الدين حيدر.

أما الوتر السابع، فكان مضيفه الموسيقار روحي الخمّاش، ذي الأصول الفلسطينية. وبه تكتمل أصوات العود بمراحلها الثلاثة: القرار والجواب وجواب الجواب.

ومؤخراً، خرج نصير شمّة بعودٍ مثمّن الأوتار. وفي نفس الحوار الذي أجراه مع صحيفة اليوم، قال شمّة: “أنا نفذت العود المثمن، وهو ليس من اختراعي بل هو عود الفيلسوف الفارابي. فمنذ أكثر من ألف سنة، خطّط الفارابي هذا العود بثمانية أوتار وأهداه إلى الوالي. وقد عثرتُ على المخطوطة وقمت بتحقيقه عام 1986 وأنا طالب، وقدمته في بغداد. وكان بمثابة أطروحة دكتوراة لأنه بحث استغرق سنة من البحث، وسنة أخرى في صناعته”.

وبحسب شمة، فإنّ الفارابي أراد لهذا العود أن يستوعب كلّ الأصوات البشرية: “الباص والتينور والألتو والسوبرانو والميتاسوبرانو”. ويضيف شمّة: “البشر يقعون في نطاق هذه الأصوات، وكلّها يستوعبها العود المثمن، وهو اختراعٌ عبقري للفارابي يكاد يجمع كلّ أوكتافات آلة القانون التي اخترعها الفارابي أيضا”.

وتجدر الإشارة إلى أن العود المتداول لكبار العازفين في هذا العصر هو عود الأوتار الستة.

مميزات العود العراقي

يعتمد العود العراقي على القياسات المتعارف عليها وأبرزها طول العود 91 سم أما الزند فطوله 19 سم. وفي هذا، يشذ العود المصري إذ يبلغ طول الزند 20 سم وفي بعض الأحيان 21. ويؤكد الباحث الإماراتي فيصل السري أن قياسات العود العراقي الأساسية قائمةٌ على المقاسات والحسابات الرياضية والفيزيائية التي لا تقبل الخطأ.

ونشرت صحيفة البيان الإماراتية بحثاً للسري تحت عنوان “المقاسات العلميّة لآلة العود”. وجاء في هذا البحث: “من خلال البحث المستمر عن أفضل المقاسات العلمية لآلة العود التي توفر أفضل الإمكانيات للعازف، توصل الباحثون إلى أن أفضل طول لزند آلة العود هو مقاس 19سم، ذلك المقاس الذي يساعد العازف على السيطرة على الآلة بشكل أفضل من أي مقاسٍ آخر”.

وبحسب محمد فاضل العواد، وهو أحد أشهر صانعي الأعواد العراقيين، فإنّ العود العراقي يصنع من أنواعٍ متعددة من الخشب العالي الجودة، وبما يتناسب مع كلّ جزء من أجزائه ويجعل صوته أكثر جمالاً وعذوبة وذبذباته طويلة.

ويقول نجم العواد، وهو أحد مهرة الصناع من العائلة نفسها إن جسم العود العراقي – أو ما يطلق عليه اسم البطن أو الطاسة – يتكون من نوعين من الخشب هما الزان الروماني وخشب الجوز. أما المفاتيح، فتصنع من خشب الأبنوس الأسود أو الجوز. ويصنع بيت المفاتيح من خشب الزان أو السيسم.

ويصنع زند العود من الجوز ويثبت على نهايته لبلاب لتثبيته مع جسم العود. ويهدف ذلك لتقوية الزند وزيادة تحمّله للانحناء. أما وجه العود، فيتكون من خشب الجام الأبيض. ويجب أن يكون خاليا من العقد والمسامير الخشبية. وعروقه يجب أن تكون متقاربة. وكلما زاد عدد العروق، كان الوجه أجود وتحمل الخشب للجهد أفضل.

وفيما يتعلق بجودة صوت العود، يؤكد نجم العواد أن وجه العود أكثر أهمية من بطن العود الذي يعكس الصوت ويخرجه عبر فتحات العود الثلاثة في الوجه. وكلّما كان الوجه أخف يكون أكثر اهتزازا وأرق صوتا، على ألا يكون ذلك على حساب المتانة. ويجب أن يكون سمك الوجه حوالي 2 ملم ويتكون من قطعتين أو ثلاث قطع والأفضل قطعتين. ويجب أن يتماثل الجانب الأيسر والأيمن لضمان الاهتزاز وصدور الأصوات بشكل طبيعي وجميل.

ويثبت الوجه على سبعة جسور خشبية من نفس نوع خشب الوجه وتلصق وتثبت أعلى البطن. ويراعى أن الجسر لا يمر تحت الغزالة التي تشد بها الأوتار منعا لكتم صوت العود. أما الغزالة فتصنع من خشب الزان وتثقب ب12 او 10 ثقب حسب عدد أوتار العود. وتلصق على الوجه بعناية لتتحمّل سحب الأوتار فيما بعد وقبل تثبيت الوجه.

تحديات الصناعة

صناعة العود العراقي
صورة تم التقاطها يوم 13 أغسطس 2006 لصانع عودٍ عراقي وهو يقوم بتشطيب عودٍ جديد في متجره الواقع وسط بغداد. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE / AFP.

يعد سوق العوّادين المطل على شارع الرشيد وسط بغداد من أقدم شوارع العاصمة العراقية وأكثرها اهتماما بالثقافة والفنون. وتتواجد في هذا السوق مجموعةٌ من المقاهي الفنية والمكتبات العلمية، وخصوصا في شارع المتنبي المتفرع عنه.

ويعتبر هذا السوق المكان الأمثل لمن يريد اقتناء العود العراقي، حيث تنتشر هناك ورشات تصنيع العود يدويا. وتستخدم هناك أنواعا من مختلفة من الأخشاب لصناعة الأعواد أشهرها خشب الجوز والليمون. ولكلٍّ منهما تأثيره في جودة الصوت.

بيد أن ما تعانيه صناعة العود لا يتعلق بالمواد بقدر ما تعلقه بتناقص الحرفيين الذين يمتهنون صناعة العود يدويا. وفي الوقت الراهن، بات عدد هؤلاء لا يزيد عن أصابع اليدين، الأمر الذي ينذر باندثار المهنة، سيّما وأن بعض البلدان بدأت تستخدم الصناعة “الآلية” لإنتاج الأعواد.

وتحرص العائلات التي تصنع الأعواد على توريث هذه المهنة إلى الأبناء. وعلى سبيل المثال، فإنّ شيخ العوادين العراقيين فؤاد جهاد، الذي بدأ بهذا العمل في العام 1958، نقل المهنة لابنه ليث. والآن يدير الابن ورشة والده. وبالوقت نفسه، فإن ليث ينقل المهنة لابنه حسين، الذي يدرس الصيدلة إلى جانب عمله في الورشة.

ولا يقتصر الأمر على عائلة فؤاد، فهناك عائلات أخرى برزت في هذا المجال منها علي العبدلي، والأسطى علي العجمي وابنه محمد علي، وعلوان الصالح، ونجم عبود، ونجاح البغدادي، ومحمد فاضل العواد. والأخير لمع اسمه منذ خمسينيات القرن الماضي وقامت جامعة اوكسفورد باقتناء أحد أعواده ووضعته في متحفها. وكان يكفي أن تحمل آلة العود توقيع محمد فاضل ليكون الأغلى.

حقبٌ مختلفة مرت على هذه الآلة في العصر العراقي الحديث ما بين ازدهار واندثار. وكانت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي فترةً ذهبية لهذه الآلة لكثرة المهرجانات الثقافية والفنية التي كانت تحتضنها بغداد. ولكن مع كلّ ما عاشه العراق من تحديات منذ تسعينيات القرن الماضي، فإن الاهتمام بصناعة هذه الآلة تناقص.

وفي الوقت الراهن، يبدو أن صناعة العود بحاجة ماسة لحمايتها من الاندثار، الأمر الذي إذا لم يحصل، فإن العراق سيخسر إرثاً حضارياً يصعب تعويضه.

Advertisement
Fanack Water Palestine