وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حراك كاهانا: الأصول والتأثير في السياسة الإسرائيلية

حراك كاهانا
النائب الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى جانب يهود متعصبين يهاجمون حرم المسجد الأقصى بمرافقة القوات الإسرائيلية في القدس في 29 أيار 2022. المصدر: Mostafa Alkharouf / Anadolu Agency via AFP

ابراهيم خطيب

المقدمة

تترافق حالة الإزاحة لليمين ، التي تسيطر على الساحة السياسية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، مع صعودِ خطابٍ سياسيٍّ يمينيّ إقصائيّ وما يرافقه من أعمالٍ عدائيةٍ من أطرافٍ إسرائيلية يهودية، كما هو الحال مع منظّمات مثل حركة تدفيع الثمن وغيرها. بالإضافة إلى ما رافق أحداث مايو عام 2021 (المعروفة أيضًا بهبة الكرامة) من اعتداءِ بعض اليهود المتطرّفين على فلسطينيين داخل إسرائيل، وتصاعُد الحركات الاستيطانية مثل الأنوية التوراتية في عدة بلدات. فضلًا عن اعتداءات المستوطنين بشكل مُنظّم على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ترافق هذه النمو لحالة اليمين في المجتمع الإسرائيلي مع استخدام القوّة وتصاعُد العنف اليميني لتحقيق مطالب وفرض أجندات، وفقًا لقناعاتٍ تقع ضمن رؤيةٍ إقصائيةٍ رافضة للعرب والفلسطينيين. 

فإن هذا الواقع يُعيد النقاش إلى حركة “كاخ” ومائير كاهانا، الذي يُعتَبر الأب الروحي لليمين العنصري الإقصائي الترحيلي وللإرهاب القومي اليهودي. حتى وإن كان كاهانا قد تُوُفّيَ منذ أكثر من 30 عامًا، فإن إرثه السياسي وخطابه ما زالا حاضرين في الواقع السياسي الإسرائيلي.

يتناول هذا المقال تاريخ مائير كاهانا وأفكاره وخطابه السياسي. كما ينظر في معالم هذا الخطاب السياسي في الحياة السياسية الإسرائيلية.

التأسيس والنشأة

في عام 1968، أسّس الحاخام مائير كاهانا وزملائه رابطة الدفاع اليهودية (Jewish Defense League). وكانت هذه انطلاقة حراك كاهانا السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في نيويورك. وكان الهدف الأساسي وراء هذه الرابطة، وفقًا لأجندتها ، حماية اليهود في نيويورك ومحاربة اللاسامية. ورافق عمل الرابطة تشبّثها بأيديولوجيا يمينية وتشديدها على إعادة اليهود لجذورهم، وفقًا لرؤيتها، لتكون رأس حربة في منع أي محاولة إبادة أخرى لليهود. ولم يقتصر عمل هذه المنظّمة على الجانب الإعلامي فحسب، بل تجاوزه ليكون هناك تدريبات على القتال واستخدام السلاح لأعضاءٍ من الحركة في ضواحي نيويورك. وبالتالي، صنّفتها وحدة التحقيقات الفدرالية (FBI) على أنّها حركة إرهابية بعد إدانتها باستهداف وتفجير مؤسّساتٍ لمنظّمة التحرير الفلسطينية وللاتحاد السوفيتي، قبل أن يتم مؤخّرًا إزالتها من القائمة الأمريكية لانعدام عملها(وليس لأنّها لم تكن منظّمة إرهابية).

وحملت رابطة الدفاع اليهودية التي قادها كاهانا خمسة مبادئ أساسية (ويبدو أن كاهانا استمر بتبّنيها حتى بعد تركه الولايات المتحدة الأمريكية). وتتمثّل هذه المبادئ بالتالي: 

المبدأ الأوّل هو حُبُّ إسرائيل وشعب إسرائيل. المبدأ الثاني، الكرامة والفخر، وهو مبدأ يؤكّد على فخر اليهود بإرثهم وتاريخهم. أما المبدأ الثالث فهو مبدأ “الحديد” (الذي يُشير إلى استخدام القوّة والصلابة)، والذي من خلاله تؤّكد الرابطة على أن نهج السلام “pacifism” عند اليهود جرّ عليهم العنف. والمبدأ الرابع يرتبط بحاجة اليهود للوحدة والانضباط. وخامسًا وأخيرًا مبدأ الإيمان اليهودي كضمانة لبقاء اليهود واستمرارهم. 

تُصنّف الأدبيات الحاخام مائير كاهانا على أنه شخص قادر على إثارة الجمهور بخطابه وقدرته على ملامسة عواطف المستمعين بكلام ذي بُعد شعبوي و تحريضي في الوقت نفسه، بعيدًا عن الخطاب الإنساني والليبرالي المتقبّل للآخر. وهنا لا يمكن التغاضي عن تنشئة كاهانا الذي تغذّى على خطاب راديكالي وخطاب حركة البيتار ومنظّرها الأساسي فلاديمير جابوتنسكي، الذي يسعى بشكلٍ مباشرٍ لمركزة اليهود والعبرية في أرض فلسطين التاريخية. وحتى مع تديُّنِ كاهانا، إلّا أنه كان أيضًا قوميًا صهيونيًا.

حراك كاهانا
تظهر صورة ملف 12 كانون الأول2001 مسجد الملك فهد في مدينة كولفر- كاليفورنيا والذي كان هدف مؤامرة إرهابية من قبل ناشطين في رابطة الدفاع اليهودية بمن فيهم إيرل كروغل، الذي سُجن لمدة 20 عامًا في 22 أيلول 2005 لضلوعه في التخطيط لتفجير المسجد ومكتب عضو الكونغرس الأمريكي من أصل لبناني في عام 2001. وحُكم على كروغل بأقصى عقوبة سجن يسمح بها القانون بعد أن اعترف بذنبه عام 2003 في إطار اتفاقية مع النيابة العامة واعترف بالتخطيط لحملة التفجير لتوجيه “رسالة” للعرب والتأكيد على أن رابطة الدفاع اليهودية “حية بطريقة متشددة”. المصدر: PHOTO/FILES/Mike NELSON

ومع انتقال كاهانا إلى إسرائيل عام 1971، قام بتأسيس حركة “كاخ” السياسية. وبات تركيزه أكثر على الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطينيين داخل إسرائيل، وأولئك الذين على الأراضي المحتلة. وأصبح ذلك واضحًا بأيديولوجيا مناهِضة للفلسطينيين بل وتنادي بطردهم. كما كان على رأس أجندة الحركة ضمّ جميع الأراضي العربية التي تم احتلالها في حرب عام 1967. وانعكس ذلك النهج على استخدام العنف الذي مارسه كاهانا وجماعته، واعتُقل على أثره في أكثر من مناسبة.

كذلك كان عمل كاهانا وجماعته منهجيًا لطرد الفلسطينيين. فقد اتُّهِم كاهانا في المحاكم الإسرائيلية بالتحريض على التمرّد، من خلال توجيه رسائل للفلسطينيين في عدة مدنٍ وقرى تطالبهم بالهجرة إلى الخارج مقابل مبلغٍ من المال. وجاءت رؤية كاهانا هذه من توجّهٍ أيديولوجي يحمله، والذي يرى الفلسطينيين وبالأخصّ في إسرائيل مصدرًا للخطر، وبحصرية تملُّك اليهود للأرض الفلسطينية. وعمل كاهانا بشكل منهجي على أجندة تُقصي العرب وتضعهم في مرتبةٍ أقل من اليهود، وترى فيهم مشكلة لدرجة وصفهم بالسرطان في أكثر من مناسبة. علاوةً على ذلك، سعى كاهانا للعمل على تهجيرهم، بل ووصل بأن يسعى تنظيمه لينقل أسلحة من خارج إسرائيل في مسعى لتحقيق أهدافه. 

أيضًا، تشير التقارير على أنه سعى لتفجيراتٍ في سفاراتٍ أجنبيةٍ بهدف لفت الانتباه لليهود في الاتحاد السوفيتي، ووجوب مساعدتهم على الهجرة إلى إسرائيل. وانعكس مُجمل هذا الخطاب على الممارسة الفعلية التي كانت تتم من خلال تجمّعاتٍ عنيفةٍ سبّبها كاهانا ومؤيدوه في مناطق فلسطينية بدوافع عنصرية وكانت ترتبط تلك الأخيرة بتصوّر كاهانا وجماعته بفوقية اليهود وإنكار حق الفلسطينيين في أرضهم، بل والسعي إلى طردهم. ورافق هذا دور وعمل كاهانا على مدار سنوات، وفي ما بعد انتقل الحال لورثته.

مقترحات عنصرية

في عام 1984، أصبح كاهانا عضوًا للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بعدما فشل في دخوله في ثلاث دورات انتخابية سبقت هذه الدورة. ورافق ترشّحه في تلك الفترة قرار لجنة الانتخابات برفض هذا الترشّح ورفض قائمة “كاخ” للانتخابات. إلّا أن محكمة العدل العليا الإسرائيلية ألغت هذا القرار، وفازت حركة “كاخ” في تلك الانتخابات بمقعدٍ واحدٍ من أصل 120 مقعدًا، وشغله مائير كاهانا بنفسه.

أثّر فوز كاهانا وكلّ من حزبه وخطابه العنصري على مجمل الحلبة السياسية. ودفع هذا الأمر بمختلف الأحزاب في الكنيست بتشريعِ قانون أساس جديد للكنيست يمنع أي حزب صاحب برنامج انتخابي عنصري من الترشّح. وهذا ما تمّ عقب ترشّح حركة كاخ لانتخابات عام 1988، التي رافقها توجّه عنصري وأيديولوجي غير ديمقراطي يدعو لتقييد زواج اليهود بالعرب، مما حدا بمحكمة العدل العليا إلى رفض ترشّحها.

وخلال عضويته في الكنيست، لم تتوقّف مسيرة كاهانا بالطرح العنصري والتمييزي. بل قام باقتراح قوانين مثل اقتصار أحقية الحصول على الجنسية الإسرائيلية على اليهود فقط، والمعاقبة بالسجن لكل من يمارس علاقة جنسية من يهودي أو يهودية مع شخص من ديانة أخرى. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل دعا وبشكل علني إلى تفجير المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الثالث المزعوم. وأشار إلى أنّه مستعد بالكامل لتنفيذ بذلك.

ويُتَرجم كلّ من خطاب ودور حركة كاخ بعلاقاتٍ نَسَجَها مع حركاتٍ استيطانية في الضفة الغربية مثل جماعتيّ غوش إيمونيم وعتيرات كوهانيم وغيرهما. وكان قسم من تلك الحركات يُصَنَّف على أنّه يحمل أجندة عنيفة سعت لتنفيذ عملٍ سريّ تحت الأرض. فإذا كانت حركة كاخ وإرثها يمثّلان حالة الفاشية والعنصرية معًا، فإن هذا الإرث الفاشي انتقل ولا يزال ينتقل حتى الآن إلى بعض الأشخاص والأحزاب والحركات الإسرائيلية. تمامًا كما هو الحال مع حركة عوتسما يهوديت وحركات أخرى أكثر تشدّدًا، مثل مجموعة شباب التلال ، ولاهافا، ولا فاميليا. وتلعب تلك المنظّمات دورًا ميدانيًا في الواقع السياسي الإسرائيلي وعلى صعيد التضييق على الفلسطينيين، وتُعتَبَر حاملةً إرث كاهانا ومكمّلةً مسيرته.

وكانت نهاية كاهانا الجسدية من خلال قتله في أحد فنادق نيويورك عام 1990. لكن هذه النهاية والتصفية الجسدية، لم تكن تعني نهاية أفكار وموروث كاهانا. فعقب مقتله، مرّت حركة كاخ بخلافاتٍ بين ورثته وأولئك الذين اختلفوا على التنظيم. وبالتالي، انقسم التنظيم إلى اثنين: واحد ظلّ يحمل الاسم نفسه، وآخر يحمل اسم حركة ” كاهانا حي “. وكانت نهاية الحركَتَيْن عبر طردهما خارج القانون في عام 1994 بعد المجزرة التي نفّذها أحد الأعضاء، باروخ جولدشتاين، في الحرم الإبراهيمي في الخليل والتي أدّت إلى مقتل عشرات الفلسطينيين وهم يؤدّون الصلاة.

توجهات كاهانا السياسية والدينية

حراك كاهانا
مزارعون فلسطينيون ينظرون إلى أشجار الزيتون المدمرة في قرية قاروت شمال الضفة الغربية في 19 تشرين الأول 2013. قال مسؤولون فلسطينيون إن نحو 80 شجرة زيتون قطعت خلال الليل في قاروت في عمل تخريبي تسبب فيه مستوطنون يهود. المصدر: AFP PHOTO/JAAFAR ASHTIYEH

دينيًا، يؤمن كاهانا بوجوب أن لا يختلط اليهود بغير اليهود، خاصةً في العلاقات والزواج، مع رؤية شعب إسرائيل أنّه شعب الله المختار. كما أنّه يرى بضرورة عودة اليهود للدين والالتزام به. بل ويرى وجوب أن تكون الدولة قائمة وفقًا للشريعة اليهودية. ويرتبط فكر كاهانا الديني عضويًا بنظرياتٍ لاهوتيةٍ مثل الانتقام، والتي تشكّلت وترافقت مع فكرٍ أيديولوجيّ متشدّد. وكان فكره هذا يتضمّن تفسيرًا خاصًا متزمتًا يدمج من خلاله البُعد القومي والديني. ورافق ذلك التزام مُلِحّ بجوانبَ من الشريعةِ اليهوديةِ بشكل أيديولوجي، بل ويدعو لتبنّيها وتعليمها لليهود كونها الشريعة “الحقة” المبنية على القراءة الصحيحة” للتوراة والتناخ والتلمود. وقد كان كاهانا يدرّسها ويصرّح عنها لمتّبعيه.

أما سياسيًا، وانطلاقًا من رؤيته الدينية وإيمانه وأيديولوجيته الذي سبق ذكره، فقد كان كاهانا إقصائيًا للآخر، خاصةً تجاه الفلسطينيين. بل ورأى وجوب ترحيلهم كون هذه البلاد لا تحتمل أن يكون شعبان فيها، نظرًا أن لكل منهما طموحاته، مع الموافقة ببقاء بعض الأقليات من العرب لكن من دون حقوقٍ سياسية. كما أشار إلى تخوّفه من تكاثر العرب الطبيعي وسيطرتهم على البلاد. وعَمَل وشَجّع ودعا إلى تهجير الفلسطينيين من إسرائيل.

كذلك رفض كاهانا أي سلام حقيقي أو إرجاع للأراضي العربية المحتلة، خاصةً مع رؤيته لوحدة “أرض إسرائيل الكاملة” وأحقية اليهود الحصرية في كل فلسطين التاريخية. أما في ما يتعلّق ب القدس والمسجد الأقصى، فقد دعا إلى السيطرة فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد، بل وأشار إلى هدفه لطرد المسلمين من هناك وهدمه. وفي عام 1986 قدّم مقترح قانون لتنفيذ ذلك. 

وبينما عَمِل بشكلٍ منهجيّ على تشجيع هجرة اليهود، خاصةً من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل، أكّد كاهانا على الحاجة بأن تكون إسرائيل دولة شريعة يهودية. وكان قاسيًا في تعاطيه مع الديمقراطية والتعدّدية، مع الخطاب السياسي الإقصائي والممارسات العنيفة أحيانًا، بالأخصّ عند رؤية أن القوة وعدم إظهار الضعف أمران مهمان لليهود. بل وطوّر منهجًا يتعاطى مع العنف بعقلية استعمارية وتوجّه عنصري. وكان هذا واحداً من الأسباب التي مُنِعت لأجله حركة “كاخ” من الترشّح لانتخابات الكنيست لعام 1988.

ساهمت هذه التوجّهات الدينية والسياسية، ذات البُعد العنصري المُعادي للآخر وفي هذه الحالة للفلسطينيين، في خلق حالةٍ من العنف. انعكست تلك الأخيرة على قيام الشخصيات المحسوبة على تابعي كاهانا وحركة كاخ وما تبعهم من تشكّلات خارجة من المنطلقات الأيديولوجية نفسها، بالاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم في القدس، والضفة الغربية وأماكن أخرى. وكانت على رأس الجرائم مجزرة باروخ غولدشتاين، الذي كان من المحسوبين على فكر كاهانا.

الكاهانية والواقع السياسي الإسرائيلي

حراك كاهانا
يمشي رجل إسرائيلي أمام لوحة إعلانات انتخابية تحمل صورًا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو محاطًا بالسياسيين اليمينيين المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلايل سموتريش ومايكل بن آري وذلك في 29 آذار 2019 مع عبارة “يعيش كاهانا” باللغة العبرية في إشارة إلى حزب كاهانا المتطرف والمحظور منذ عام 1994. المصدر: AFP/THOMAS COEX

تكمن إشكالية حالة كاهانا بتأثيرها على الحلبة السياسية الإسرائيلية، خاصةً أن التوجّه السياسي في إسرائيل بات يتجّه إلى اليمين. ويكمن هذا التأثير في أربعةِ مجالاتٍ أساسية: 

المجال الأوّل: شرعنة الخطاب السياسي العنصري كما يحصل في السنوات الأخيرة، وجعله جزءًا من الخطاب السياسي الطبيعي أو الممكن والمسموح. فبات كلّ من باروخ مارزل وإتمار بن غفير، (من منتسبي ومناصري كاهانا وحزبه سابقًا، ومن قياداتٍ حزبية في اليمين الديني القومي)، قادِرَيْن على أن الخروج بخطابهما السياسي في الإعلام الإسرائيلي والفضاء العام بشكل علني. وإن كان هناك من يعارض هذا الخطاب ويحاربه في مختلف المنصات.

وأصبح هذا الخطاب السياسي جزءًا من بعض الخطابات الإسرائيلية، أي تلك المرتبطة بإقصاء العرب والتأكيد على تفوّق المكانة اليهودية وغيرها من المفاهيم التي حملها كاهانا. ويعتبر بن غفير قائد حزب “قوة يهودية” أن طرح قوانين مثل قانون الولاء الذي اقترحه أفيغدور ليبرمان رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” اليميني المتطرّف عام 2009، وخطاب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء السابق وقائد حزب ليكود السلبي، تجاه الدور السياسي للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، هي توجّهات تسير في اتجاه فكر كاهانا. ورافق هذا الخطاب تصرّفات حركات مثل لا فاميليا ولاهافا، التي كان بالإمكان رؤية دورها في أعمالٍ عنيفةٍ تجاه الفلسطينيين داخل إسرائيل في أحداث مايو عام 2021.

المجال الثاني: نموذج الإلهام الذي يمثّله طرح كاهانا. ومن هنا تصاعد خطاب حركة “كاهانا صدق” وغيرها من الحركات. كما أن خطابه وداعميه ما زالوا موجودين في الحيّز السياسي الإسرائيلي العام بل ويزداد عددهم. ويمكن معاينة ذلك من خلال أعمال ورثته الذين لوحقوا للاشتباه بأنّهم خلف أعمالٍ إرهابيةٍ كما هو الحال في حرق منزل عائلة دوابشة عام 2015.

ويمكن رؤية إحياء إرث كاهانا الذي يتم من خلال إحياء ذكرى موته بشكل سنوي عبر وقفات مخلّدة لذكراه. كما أن مكمّلي مسيرة كاهانا، ساروا على الطريق العنيف نفسه من خلال استخدام العنف وتوظيفه. تمامًا كما فعل باروخ مارزل، الذي أشار قاضي إسرائيلي إلى أنّه يعبّر عن توجّهاته السياسية بتطرّفٍ وعنفٍ واستهزاءٍ لسلطة القانون.

ولا يزال حتى الآن يتمّ تنفيذ عدد من العمليات والجرائم وأعمال العنف تجاه الفلسطينيين، والتي يُتَّهم بها عدد من المنظّمات الاستيطانية في الضفة الغربية. ومن بين تلك الحركات يوجد حركة “شباب التلال” وغيرها. كما لا يزال هناك شرعنة لاستخدام العنف على أساسٍ أيديولوجي في قضايا كثيرة يقوم بها الآن المستوطنون في الضفة الغربية المحتلة، خاصةً تجاه السيطرة على أرض الفلسطينيين. واستُخدِم هذا العنف في مرات عديدة خلال السنوات الأخيرة، ليكمّل طريقه من عدم الاكتراث للقانون وفرض تصوّره الأيديولوجي ولو بالقوّة. وامتدّ هذا لحركاتٍ مثل “تدفيع الثمن” التي هجمت على الفلسطينيين وممتلكاتهم، ما ساهم ارتفاع عدد الحوادث بشكل كبير خلال السنوات الماضية.  وفقاً لمنظمة الإسرائيلية “السلام الآن” في عام 2019، تم تسجيل 363 حادثة عنف. وارتفع هذا العدد في عام 2020 ليسجّل 507 حادثة. وفي النصف الأوّل من عام 2021 وحده، بلغ عدد الحوادث 416.

حراك كاهانا
«الثمن هو انتقام اليهود» – جرافيتي باللغة العبرية كتبت على جدار في قرية عقربا الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة في 2 تموز 2014 ويُزعم أن الفاعلين هم مستوطنون يهود فيما أصبح يعرف باسم «ثمن الهجمات». مصطلح «الثمن» هو تعبير ملطف عن جرائم الكراهية ذات الدوافع القومية من قبل المتطرفين اليهود والتي لا تستهدف الممتلكات الفلسطينية فقط بل تتعدى على غير اليهود وأحيانًا الإسرائيليين اليساريين وقوات الأمن. المصدر: AFP PHOTO/JAAFAR ASHTIYEH

المجال الثالث: صعود حركاتٍ سياسية وناشطين وقيادات وأصحاب رأي تستلهم خطاب كاهانا وتطبّق أجندته، لكن مع تتبُّعِ محاذيرَ سياسية خشية المحاسبة القانونية. وفي الوقت نفسه، استطاعت هذه الأحزاب أن تكون من التوليفة الحكومية ومن أدوات اتخاذ القرار لدرجة أنّها، وفقَ البعض، ساهمت بصعود اليمين وعلى رأسه نتنياهو، لسدة السلطة في إسرائيل.  بل وأصبح قسم منها جزء من التيارات المقبولة في إسرائيل.

فقائمة مثل الصهيونية الدينية التي فازت في انتخابات الكنيست في مارس 2021 بسبعة مقاعد، هي قائمة يمينية راديكالية على رأسها بتسلئيل سموتريش الذي يحمل مواقف يمينية. وتؤمن هذه القائمة بحاجة إسرائيل إلى استخدام القوّة، وبضرورة ضمّ الأراضي الفلسطينية المحتلة وإعطاء الفلسطينيين صفة سكان وليس مواطنين. أي تصنيفهم بمستوى أقل من المواطنين الإسرائيليين. وتُحسَب خطة سموتريش على أنّها ترحيلية وإقصائية للفلسطينيين. كما أنه تحدّث بشكلٍ وُصِف بالعنصري عندما قال في إحدى جلسات الكنيست عام 2021 للنواب العرب “أنتم هنا لأن بن غوريون لم يكمل المهمّة”، في إشارةٍ منه لترحيل الفلسطينيين خلال النكبة. هذا وكان سموتريش وزيرًا في حكومة نتنياهو، مما منحهُ شرعية في اتخاذ القرار السياسي الإسرائيلي، مع حقيقة مواقفه اليمينية المتطرّفة والإقصائية. 

أما حزب ” عوتسما يهوديت ” (قوّة يهودية) الذي يقوده إتمار بن غفير، فهو يُعتَبَر من مكمّلي مسيرة كاهانا، وتمّت إدانته بالتحريض على العنصرية ودعم منظّمة إرهابية. يشكّل هذا الحزب الآن جزءًا من التركيبة السياسية الإسرائيلية، وسُمِح له بالمشاركة في انتخابات الكنيست علمًا أنه يحمل إرث كاهانا. فيرى كلّ من بن غفير وحزبه أنّه لا يجب أن تتخلى إسرائيل عن أي أرض في إشارةٍ منه إلى عدم موافقته على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولا يرى أي حق لغير اليهود في البلاد. كما يؤمن الحزب أن السيادة على المسجد الأقصى تعود لليهود، ويشجّع على الاستيطان الإسرائيلي. ويعتقد أن الحرب مع أعداء إسرائيل هي شاملة (في إشارةٍ للفلسطينيين)، ويطالب بتهجّرهم وضرورة استخدام القوّة في المواجهة. 

 

يُعتبر بن غفير من قِبل جمهورٍ واسع وباحثين بمثابة وريثٍ لكاهانا. فهو يطرح أفكارًا كاهاناية مقصية للعرب وعنصرية بل وداعمة لنهجٍ إرهابيّ. كما أنه قام بأعمالٍ استفزازية في القدس وأماكن أخرى تُذَكر بأساليب كاهانا علمًا أن خطابه السياسي الداعي للترحيل والعنصري رافقه في مشواره حتى يومنا هذا. ويُحسب بن غفير على صف داعمي نتنياهو، في سياق الانقسام السياسي الذي تعيشه إسرائيل في السنة الأخيرة (2021-2022). قام نتنياهو بضم بن غفير في قائمة الصهيونية الدينية المشتركة قبل انتخابات آذار 2021 (منضما إلى الليكود كجزء من كتلة يمينية) لتجنب خسارة أصوات اليمين وتعزيز فرصه في تشكيل حكومة جديدة.

المجال الرابع: قدرة هذا الخطاب على أن يشكّل حالة من الشعبوية والتحريض داخل المجتمع ويخلق الانجرار إلى اليمين، تنعكس على مجمل الأحزاب السياسية. كل ذلك يُتَرجَم بسياساتٍ إقصائية، وبتكريس حالة تفريغِ شعار الديمقراطية والليبرالية. ويُتَرجَم أيضًا باستخدام بعض الأدوات الديمقراطية والتركيبة اليمينية للمجتمع الإسرائيلي بهدف فرض حضوره، مع العلم أن كاهانا نفسه استاء من الديمقراطية الليبرالية. لكن في الوقت نفسه، استخدمها عندما كانت تخدم أجندته، واستمرّ ورثته على المنوال نفسه. ناهيك عن الواقع السياسي العام الإسرائيلي الذي بات هو الآخر بعيدًا كلّ البعد عن الديمقراطية الليبرالية. وتقلّصت المساحة الديمقراطية ومساحة المواطنة وفرغت من مضمونها. 

ومن هنا يمكن أن نرى أن قانون القومية الذي سُنّ عام 2018 يشكّل إحدى تجلّيات تأثير حراك كاهانا. ويترافق هذا مع طبيعة الواقع الاحتلالي والاستعماري الإسرائيلي والسياسات داخل إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان كاهانا نفسه قد أشار إلى اختلاف الديمقراطية عن اليهودية، وتمسّكه بالشريعة اليهودية التي ترى وفقًا لرؤيته بأن غير اليهودي ليس بمكانة اليهودي نفسها. هذه الرؤية اللاهوتية المرتبطة بفهم الدين اليهودي وتفسيره بصورة خطابٍ إقصائيّ للآخر تعود إلى القرون الوسطى، وهو ما كان يحمله كاهانا وفقًا لبعض الباحثين. وما زال هناك من يتبنّى هذا الخطاب من قياداتٍ دينيةٍ يهوديةٍ لا تزال موجودة حتى الآن في الحيّز السياسي الإسرائيلي العام. 

المراجع

Afterman, A., & Afterman, G. (2015). Meir Kahane and Contemporary Jewish Theology of Revenge.  Soundings: An Interdisciplinary Journal ,   98 (2), 192-217.

Friedman, Robert I. 1990. The False Prophet. Rabbi Meir Kahane: From FBI Informant to Knesset Member (New York: Lawrence Hill Books). 

Ghanem, A. A., & Khatib, I. (2017). The nationalisation of the Israeli ethnocratic regime and the Palestinian minority’s shrinking citizenship.  Citizenship Studies ,   21 (8), 889-902.

Magid, S. (2015). Anti-Semitism as Colonialism: Meir Kahane’s “Ethics of Violence”.  Journal of Jewish Ethics ,   1 (2), 202-232.

Magid, S. (2020). Irving Greenberg vs. Meir Kahane, Public Debate at the Hebrew Institute of Riverdale. In  The New Jewish Canon  (pp. 34-39). Academic Studies Press. 

Magnusson, E. (2021). ‘Frightening proportions’: On Meir Kahane’s assimilation doctrine.  Nordisk judaistik/Scandinavian Jewish Studies ,   32 (2), 36-53.

Masalha, Nur.  Imperial Israel and the Palestinians: the politics of expansion . Pluto Press, 2000.

Pedahzur, Ami. 2012. The Triumph of Israel’s Radical Right (Oxford University Press) 

Ross, J. I. (2015).  Religion and violence: An encyclopaedia of faith and conflict from antiquity to the present . Routledge. (p.390)

Sprinzak, E. (1991). Violence and catastrophe in the theology of Rabbi Meir Kahane: The ideologization of mimetic desire.  Terrorism and Political Violence ,   3 (3), 48-70.

The Israel Democracy Institute (2015). Obedience and Civil Disobedience in Religious Zionism. From Gush Emunim to the Price Tag Attacks.

موشيه هيلينجبر ويتسحاق هيرشكوفيتس. (2015). الطاعة وعدم الطاعة في الصهيونية الدينية من غوش إيمونيم إلى تدفيع الثمن.  القدس: المركز الإسرائيلي

Advertisement
Fanack Water Palestine